بقلم شادي عزام
السيرة الفاضلة لسيّدنا المرحوم الشّيخ ابي حسن منهال منصور
رضي الله عنه
عسفيا – ١٨٨٨-١٩٧١
مولده و نسبه
ولد العبد الصّالح منهال عبدالله إسعيد منصور سنة ١٨٨٨. و كان ولدا وحيدًا لأبوين عرفا بديانتهما و باستقامتهما في قرية عسفيا و الذّي يعود نسبهم الى بيت خير الدين في حاصبيّا، و قد قدمو من لبنان الى قمة جبل الكرمل ليعمروا مع اخوة اخرين بلدة عسفيا
منهج حياته
منذ صباه برزت عنده علامات الاتقياء و محبته الشديدة لاهل الدين، يلحق بهم اينما حلّوا، و يستمع لاقوالهم، و يسعى في خدمتهم. و في غضون سنة ١٩١٥ توجّه الى خلوات البياضة في حاصبيا لاكتساب العلم و المعرفة و مسلك الثّقات
في اول زيارة لهذا الازهر الشريف، و هو في مقتبل شبابه، التقى بأخيه سيدنا الشيخ امين طريف، فالتقت الارواح لتتجانس، و منذ ذلك الحين اصبحا رفيقي درب، يقصدان البياضة و يتعبدان سوية. اخوّة دينية حقيقية بأسمى معانيها، و من ثم تعاون متكامل في اشهار كامة الحق و التوحيد
تميز المرحوم بذاكرة قوية جدًا: حفظ و فهم، المعلوم الشريف و غاص في شروحات الامير السيد – قدس الله سرّه -، و كل الكتب التي لها علاقة بالتعاليم التوحيدية، و زاد عليها من الكتب المقدسة و اقوال الحكماء. منذ شبابه اتخذ مسلك التعبّد: الجوع و الصيام، التعفّف و الاحسان طريقا. يدرس و يجاهد نفسه نهارًا و ليلًا على ضوء ابسط سراج و حتى على ضوء القمر ؛ مما سبّب له مرضًا في بصره و فقدان الرؤية و فقدان القدرة على القراءة و ذلك سنة ١٩٢٨، فكان راضيا مسلّمًا. و تواليا فقد ابنه البكر و ابنته و من ثم ابنه الثاني سنة ١٩٤٩ ايضا، و كان دائما هو الواعظ و الصابر و المصبّر و المرشد و الرّاضي المسلم امره لله
لقد ُتوّج العمامة ” المكولسة “مع رفقاء دربه المشايخ الاجلاء : الشّيخ امين طريف من قرية جولس و الشّيخ سلمان نصر من شفا عمرو . و كان ذلك في سنوات الثلاثين خلال زيارة النّبي ايوب – عليه الصلاة و السلام – و تمّ ذلك على يد ابرز شيوخ الورع و التقى : ابي حسين هاني من بعذران و ابي يوسف سليم البيطار من البطمة. و لكن الشيخ ابا حسن منهال، سرعان ما ان اعتذر عن لبسها بحجة ثقلها على نظره، و لكن المرجح عند اهل الثقة بأنه ذلك كان من باب التواضع . و هناك من قال بأنه تواضعاً منه حتى لا يتساوى مع اخيه و رفيق دربه سيدنا الشيخ ابي يوسف امين طريف الرئيس الروحي للطائفة الدرزية
لقد قضى طيلة حياته صائماً جائعاً متعبداً محسناً، يأكل مرّة واحدة يوميّاً يقتات بأبسط المأكولات، و كلها من اعشاب و نباتات الارض، هذا رغم إمكانياته الواسعة. يقدم لضيوفه احسن المأكولات و يحرمّها على نفسه عرف نفسه حق المعرفة، و كان سيّدها و يسيطر عليها سيطرةً تامةً
كان يرى ان قصارى غايات الانسان ان يسعد سعادة ابدية في جوار ربّه. كان هذا منطقه في الحياة؛ و لذا رأى حياة الدنيا فانية ، و ما هي الاّ مرحلة عمل و تمهيد و اعداد لحياة اخرى خالدة. لذلك باع ما ورثه من والديه من اراضٍ ، و صرفها في الاحسان و الصّدقة. و كان يردّد و يقول: بأن ما تبذله يمينك ، يجب ان لا تعرف به شمالك و نقلاً عن الاتقياء: بأن والدته ورثته ذهباً و مالاً كثيرا صرفه كله في سبيل الله
لقد كان يضحّي بكل غالٍ و ثمين، يكافح و يناضل دون كللٍ او يأس من اجل الاهداف الدينيّة التوحيدية، و رفع رايتها و تعزيز كيان رجال الدين الحقيقيين. فكان لهم دعامة و مرجعا يستقون من منهله، و يتشجعون بإيمانه مطمئنًّا لهم مهونا عليهم مصائبهم، مساعداً لهم في جميع امور دنياهم
كان يجول في شتّى القرى التي يسكنها ابناء التوحيد في سوريا و لبنان و فلسطين قبل ١٩٤٨، دون ان يغيّر من منهج حياته شيئًا. يبثّ التّعاليم التوحيدية و اقوال الحكماء، يفسّر ما هو معجم، و يبسّط و يفهّم، يدعو الى تهذيب النفس و معرفتها، و يحثّ على الوصول بها الى غايتها الحقيقية للتقرب من باريها، و يؤّكد على مرتبة العمل الصالح في التوحيد، الكثير الكثير من شباب وًرجال توجّهوا الى سلوك الطريق القويم، و انضموا الى الحياة الدّينية نتيجة لسماع وعظه و ارشاداته التي كانت تخرج من قلب طاهر نقيّ؛ لتدبّ في قلوب المريدين لسبب وقعها المميّز
و رغم ان الله نغّصه بفقدان الرؤية و هو في سن الاربعينيّات، فقد كان يملك ذاكرة نادرةً و قريحةً فيًاضةً، تصب العلوم بتدقيق لغويّ نادر، و بأسلوب شيّق جذّاب، يجمع في اقواله علوم الدّين و الاداب، و اقوال الفلاسفة و الحكماء. جالس فقهاء السنة و الشيعة و الاحمدية، و المطارنة و المستشرقين، و المؤرخين و العلماء. و كان يترك عندهم الانبهار و الدهشة و الاحترام و التقدير
علاقاته و مبادئه
منهم من سمع عنه و قصده في بيته، و منهم من جالسه في مناسبات و اماكن مختلفة. و هكذا عقد علاقات صداقة و احترام و تقدير مع رجالات دين مشاهير من مختلف الطوائف، و كذلك مع رجالات علم و اجتماع و دولة الذين كانوا له سندا في الذود عن حقوق ابناء التوحيد. كان دائما ُيقصد من قبل رجالات الدين الدورز و غير الدورز و من غير المتدّينين، كذلك كان يدعى في كل مناسبة دينية و اجتماعية؛ ليرشد سامعيه بعلمه. و كان انيس المجالس و حلقات الوعظ و الارشاد في المجتمعات الدينية
و قد عرف عن الشيخ الدور الذي لعبه في مساعدة الضعفاء في عهد الاتراك حيث ساهم في تحرير الكثير من رجال الدين الضعفاء من الخدمة العسكرية ليكونوا قادرين على اعالة عائلتهم و ذويهم
كان الشيخ الجليل صاحب البيت الواسع حيث استضاف النازحين من حاصبيا سنة ١٩٢٥ من جراء الثورة السورية الكبرى و امن لهم المأوى و الطعام و كل ما استطاع ليكون سندا لهم في نزوحهم
و ايضاً عرف عن الشيخ التدقيق بين الحلال و الحرام و هناك احاديث كثيرة لا زالت متداولة عن تصرفات الشيخ و الذي كان لا يرضى الا ان يتجنب الحرام في كافة تفاصيل حياته
ان الخالق خص هذا العالم العامل بميزات و صفات قلما تجدها في شخص واحد، الا عند اولياء الله. و ان اكبر دلالة و شاهد على ذلك ما تورده الوثائق بلسان قائليها من اهل الفضل و غيرهم. لقد كان مجمل نهجه العملي التطبيقي يكرره في اقواله بأن على الانسان ان يضع نصب عينيه مخافة الله في كل صغيرة و كبيرة، و يستشعر وجوده في كل لحظة، و يعمل لمرضاته حتى يوم مماته. و بعد ذلك عليه ان يذكر اثنتين و ينسى اثنتين : و اما ما يجب ان يذكره، هو اساءته الى الناس، و احسان الناس اليه. و أما ما يجب ان ينساه، هو اساءة الناس اليه و احسانه الى الناس
الخاتمة
صدق من قال: من كان مع الله كان الله معه
ان شيخنا العلاّمة الصّائم النّاسك، تميّز ببصيرة نافذة، و فكر متّقد، فارتقى بمنزلته الشريفة متفوّقا على سائر الاقران، و اصبح عند اهل التوحيد عنوانًا شامخًا لا يبارى، و منارةً فاخرةً زاهرةً. فأضحى صيته العاطر خالداً ما بقي الزّمان. و كم تنطبق على شخصه الكريم، و على سيرته الناصعة هذه الابيات الشعريّة
فارقت دنياي لم اجزع لاخرتي
فالمرء دنياه مرآة لاخراه
و الناس صنفان موتى في حياتهم
وآخرون ببطن الارض أحياء
و كم رجل يعد بألف رجل
وكم رجل يمر بلا عداد
شادي عزّام : ناشط شبابي وإجتماعي