بقلم ريدان سلمان شقير
بَعض مَنَاقِب الفَاضِل الطَّاهر التَّقيّ الدّيَّان الشُّجاع الخَيِّر
سيدنا الشَّيخ أبو حسين علي شقير
رضي الله عنه ونفعنا ببركاته
شيخٌ جليلٌ تقيٌّ ورعٌ من بلدة عيحا في جبل الشَّيخ في لبنان أحب الله سبحانه وتعالى، وأحبَّ صفيّه الكريم صلى الله عليه وسلّم. وجاهد في حبّ الله جهاداً شهيراً وفي نصرة أهله ضد الطُّغاة المُعتدين. واشتهر بالشَّجاعةِ والفضل والصلاح والقيام بأحكام الدِّين الشَّريف. حتَّى قيل عنه أنّه أشجع وأتقى مشايخ عصره في بلادنا
والدُه الشَّهيد الفاضل المجاهد الشَّيخ أبو علي نصرالدّين شقير رحمة الله تعالى عليه. كان شيخاً فاضلاً شجاعاً، حصلت في وقته حروب كثيرة. وكان في البلاد حينئذٍ قومٌ يقال لهم أرناؤط أشقياءٌ أشرار هاجموا قرية ظهر الأحمر وحاصروا النِّساء والرّجال. فجاءت الإستغاثة الى بلدة عيحا بلدة الشَّجاعه، فاشتدّت نخوة الرِّجال وأسرعوا الى ظهر الأحمر. وكان الشَّيخ نصرالدّين مقداماً في الشّجاعه، فحاربوا الاشرار وكسروهم وفكّوا حصار النِّساء بقدرة الله تعالى واستشهد الشَّيخ نصرالدّين رحمه الله في تلك الموقعه
بعد وفاة الشّيخ نصرالدين شقير خلفه ابنه الشّيخ علي وبما أنّ أهل بلدة عيحا كانوا محبين للشيخ نصرالدين أجمعت آراؤهم على خدمة الشّيخ علي
يروى أن الشّيخ علي كان يزرع الحمّص في سهل عيحا وكان معه شابٌ فَتِيٌّ يلقط الحمص. فَعَطِشَ الشّاب وشكا الى الشيخ عطشه فقال الشَّيخ: اصبر يا بعدي الله بهونها. فصبر قليلاً وشكا الى الشَّيخ ثانية انه لم يعد يحتمل فقال له الشّيخ: اذهب الى ذلك الحجر واقلبه لعلَّ الله يرزقك الماء. فتقدَّم الشَّاب من الحجر وقلبه وإذا بالماء موجود فشرب حتَّى ارتوى واعاد الحجر الى مكانه. وبعد ساعات عطش الشّاب واتّجه نحو الحجر وقلبه فلم يجد الماء، عندها شعر الشَّاب بكرامة الشَّيخ وروى لأهل بلدته تلك الكرامه فحصل عند السَّامعين الرَّغبه والطّاعه للشَّيخ في ما يقول
وكان الشّيخ إذا دُعي الى الطّعام يجلس ويسمي الله ويشير إصبَعه الى الطّعام فإذا رجفت إصبعه يمتنع عن أكل الطَّعام لأنه يعلم بذلك أنَّ الطعام مشبوه، واذا لم ترتجف يأكل في حين يعلم أن الطَّعام حلال
ويروى أن الشيخ كان يملك معصرة لعصر العنب، وفي أثناء عمله في الليل نفذ زيت السراج فغرف الشيخ من المسطار “أول عصير العنب” مستبدلاً الزيت بالمسطار فأضاء السراج وذلك على مرأى الرجل الذي يعمل في المعصرة فقال الشيخ للرجل: إذا رویت ذلك وأنا على قيد الحياة، أغضب عليك
وروي أنه لما قام ابراهيم باشا المصري الظالم بحروبه وخرج من مصر وأخذ يطوّع أبناء البلاد ويأخذ عسكراً إجباريّاً. وكل بلدة تطيعه وتقدم له ذخيرة وعسكراً وتحارب معه تكون آمنة من ظلمه. والبلد التي لا تجيب طلبه يغضب عليها وعلى اهلها ويحرقها
ولم يزل في طريقه من عريش مصر حتى وصل إلى سهل عيحا فأرسى جيشه في السّهل وأقام متاريس في آخر بركة السهل. ولم تزل هذه المتاريس إلى يومنا هذا. وضرب مدافعه قرب البلدة فانذعر الناس وارتعب الحريم والأولاد
وكان الشيخ يختلي في موقع يقال له (الخرجي) متعبّداً. فقصده الناس وأخبروه سائلين ما الرأي؟ فقال الشيخ: هذا الظالم ماذا له عندنا. إن شاء الله أنزل إليه وألومه على هذا العمل، فتوجه الشيخ إلى السَّهل ولحق به رجل من نصارى البلدة يدعى عبدالله الصيفي. وصل الشيخ إلى أول الجيش وقال لهم أين أميركم؟ فأوصلوه إلى صيوان الأمير. تقدّم الشيخ إليه وقال له: يا ظالم ماذا لك عندنا؟ خوّفت الأطفال والحريم
فلمَّا سَمِعَ الظَّالم هذا الكلام قال لبعض عساکره اضربوه بالمدفع ليُقطَّع اثنين وأربعين قطعة. فابتسم الشَّيخ وتقدّم صوب فوّهة المَدفع. فضربوا المدفع عليه فلم تطلق نار المدفع ضربوا ثانيةً فلم تطلق ضربوا ثالثةً فانطلقت النار بالاتجاه المعاكس فَقُتِلَ مطلق نار المدفع والشيخ قد سَلم
فتقدّم النصراني إلى الظالم قائلاً: يا باشا هذا وليٌّ من أولياء الله إذا غَضِب عليك يهلك عسكرك. فتوجّه إبراهيم باشا إلى الشيخ قائلاً: بالحق يا شيخ إنّك وليّ سامحني واطلب ما تريد وادعُ لي. فقال الشّيخ: من جهة الدعاء الله يوفق من سعى في مرضاته. ومن جهة ماذا أريد منك أريدك ان ترحل عنّا. فقال ابراهيم بخاطرك يا شيخ. ثم انه رحل من البلاد بفضل الشيخ وبركته وعاد الشيخ والرجل النصراني إلى البلدة فاجتمع الأهالي لاستيضاح الأمر فروى النصراني ما جری قائلاً: لمّا أراد ابراهیم باشا ضرب الشیخ بالمدفع قال للعسكرية قطّعوه اثنين وأربعين قطعة، فرأيت الشيخ قد ابتسم ولم يَخَف. فشاع الخبر في البلاد وقصدت الإخوان الشيخ للتبارك
غادر ابراهيم باشا عيحا متوجها الى سوريا، ولمّا اشعل الحرب بينه وبين دروز جبل العرب كان قائد الدروز أنذاك سيدنا الشيخ ابراهيم الهجري رضي الله تعالى عنه
علم الشيخ المقدام الفاضل علي شقير بالمحنة التي اُبتلي بها دروز سوريا، وهو يعلم أن حفظ الاخوان ونصرتهم ومساعدتهم هو من الفروض الدينيّة المرعيَّه وأن عليه واجبا دينيًّا أخوياً إنسانيّا أن يساهم في ذلك، فحصل على كميّة من الذخيره كانت قد جُمِعَت غيرة دروز منطقتي وادي التّيم الأعلى والأسفل ووضعها على ظهور الدواب وساقها ليوصلها الى المقاتلين المدافعين عن انفسهم وارضهم وبلادهم وكان رضي الله عنه قوي الايمان بالله تعالى لا يهاب بشراً مثله
وفي طريقه إلتقى بشابّين فسَلَّما عليه سائلينه أين قصده. فأجابهما: إن شاء الله جبل الدروز. فقالا يا شيخ نحنا جماعه منكم استعبدنا ابراهيم باشا المصري تحت نظامه ونحن من فلسطين ولمّا علمنا ان ابراهيم باشا يحارب الدروز هربنا لأننا لا نريد محاربة أهلنا ولا نعرف أين نتّجه. أتأذن لنا بمرافقتك؟ فأجاب الشّيخ: على بركة الله. فرافقا الشَّيخ، ولمّا بلغوا الطريق المؤدي الى جنوب شرقي دمشق فوجئوا بالجنود الأتراك يقيمون الحواجز لمنع الامداد عن الدروز. فخاف الشابان وأرادا تغيير وجهة سيرهما فصدّهما الشَّيخ قائلاً: فلنكمل طريقنا نحو العسكر. فطلبا من الشيخ أن لا يخبر العسكر بأنهما فارّان. فأجابهما الشَّيخ: على بركة الله
وعند وصولهم الى العسكر أحدق العسكر بهم وأكثر الأسئلة، فأجاب الشَّيخ بكل هدوء ورباطة جأش ووجه طافح بالبشر والطمأنينه أن اسمه أبو حسين علي شقير من عيحا، وأنه يحمل الرصاص والبارود لإخوانه الدروز ليقاتلوا بها عسكر ابراهيم باشا المصري. فَذُهِل القائد مما سَمع وقال له: ألا تعلم أن ابراهيم باشا إذا سمع هذا الكلام يقتلك حتماً على الفور. فتبَسَّمَ الشيخ وقال: إنَّه لا يستطيع ذلك. حار الجند في أمرهم فأخذوه الى خيمة ابراهيم باشا واخبروه بما قال
نظر ابراهيم باشا اليه يتأمَّل لبوسه الدِّينيّ البسيط ووجهه المتهلّل بالوقار والإيمان وسأله: ماذا تحمل معك؟ فقال الشيخ: الرَّصاص والبارود. قال ولماذا؟ فقال الشيخ:أُساعد بني قومي ليحاربوا بطشك وظلمك بها
فقال: وألا تخاف أن أقتلك؟ قال الشيخ: أنت تقتلني؟! لا. لا تستطيع يا ابراهيم، الارواح بيد الله لا بيدك انت يا ابراهيم
تملَّكت الخشية والرّهبة إبراهيم باشا بقوّة. وسأله عن رفيقيه فأخبره بأنهما هاربان من عسكره. فأطرق برهة، ثم قال لجنده: أطلقوا سراحه في الحال طالباً منه أن يدعو له. فأجاب: وفَّق الله من سعى في مرضاته. وبعد خروجهم من صيوان الباشا إبراهيم تقدَّم الشابان من الشَّيخ باكيين وقالا له: ألم تشفق علينا فأخبرت الظالم بأننا عسكر؟ فقال لهما: لولا سدقنا ما نجونا ۔ فاطمأنا، وأكملا مسيرهما والشيخ إلى أن وصلوا إلى وعرة اللَّجا والتقوا بالدروز فتقدَّم سيدنا الشيخ أبو حسين إبراهيم الهجري من سيدنا الشيخ أبو حسين علي شقير وسلَّما على بعضهما وتأهَّل الشَّيخ ابراهيم بالشيخ علي كثيراً به وقال له: خطر في بالي أنك ستفزع لنا يا شيخ علي أثابك الله تعالى. وطلب منه أن يروي ما حدث معه في مشاق الطريق من الأخطار. فروى الشابان ما شاهدا من أحداث فقال الشيخ إبراهيم الهجري : إن شاء الله الفرج قريب
وتوجَّه الشيخ علي بحديثه إلى رجال بني معروف محمِّساً وواعداً بالنَّصر وأنه مصمِّم على القتال إلى جانبهم إلى أن تزول عنهم هذه المحنة فتبدَّدت مخاوف المقاتلين وازدادوا إيماناً وأخذوا يردِّدون: ما دمتم موجودين معنا أيها الأسياد فسوف نقاوم ونصبر على المحن وننتصر بعون الله
ولم يزل الشَّيخان في قيادة الحرب والمعارك حتى ضَعُفَ جيش إبراهيم باشا وخسر نحو من سبعين ألفاً من جندِهِ بقدرة الله تعالى وكرامة الشَّيخين الفاضلين وشجاعة شباب بني معروف الأبطال
وكان سيدنا الشيخ أبو حسين إبراهيم الهجري رضي الله تعالی عنه صاحب فضل وعلم واسع قيل عنه أنه كان أعلَم مشايخ عصره. ومن کراماته أنه أحضر جراباً وكتب عليه ما كتب مستعيناً بالله عزَّ وَجَلّ وربطه ربطةً وثيقةً ونفخه، فانتفخ ابراهيم باشا وهو بين عسكره بقدرة الله تعالى ووقع
قال سيّدنا الشَّيخ الهجري لسيدنا الشيخ أبو حسين علي شقير: إن شاء الله الفرج قريب على يدك يا أخي، فمرادي أن تزور هذا الطاغي. فأجابه حبًّا وكرامة ومشى من وقته نحو الطاغية. فلما وقع نظر ابراهيم باشا على سيدنا الشيخ علي، قال له: أرجوك يا شيخ أن تدعو الله لي لأني منذ أيام منفوخ وعلى هذا الحال. ولم يقدر أحد على معالجتي، عساك أن تفرجني فأجابه الشيخ: شفاؤك قريب على أن تجري صلحة مع قائد الدروز الشَّيخ ابراهيم الهجري. فأجاب المصري ، بخاطرك يا شيخ. فقال الشَّيخ علي: يا إبراهيم إذا شُفيت تصالح وترحل أنت وجيشك عن هذه الديار. فوافق ابراهيم
وعاد الشَّيخ علي إلى إخوانه الدُّروز وأخبرهم بما حدث مع ابراهيم باشا وعلى ما اتفقا فاستبشر الدروز خیراً وأكمل الشَّيخ ابراهيم خطته الدينيَّة الروحانيَّة وفَكَّ الجراب لتنفيسه ثلاث مرات على ثلاثة أيام مُتَتَالية مرّة بعد مرّة. فبدأ ابراهيم المصري يستريح يوما بعد يوم وفي تمام اليوم الثالث شُفِيَ شِفَاءً كُلِّيًّا.
عادَ الشَّيخ علي شقير إلى ابراهيم باشا المصري مُستَفسِراً عن الإتفاق وعن الصُّلح فأجاب ابراهيم باشا أنه مستعد لذلك
جمع سیدنا الشيخ أبو حسين علي شقير بين سيدنا الشيخ أبو حسين ابراهيم الهجري وبين ابراهيم باشا المصري ووقعوا صلحاً، ورحل إبراهيم باشا عن الجبل بجيشِهِ مخذولاً وحُرِّرَت الأرض بمنّة الله تعالى مجده
وأقيم لسيِّدنا الشَّيخ أبو حسين علي شقير تكريم وقام برفقة أخيه سيدنا الشَّيخ أبو حسين ابراهيم الهجري بتلبية الزيارات إلى قرى الجبل التي طالبت بذلك من أجل التبرك بزياراتهما. رضي الله عنهما
ولمَّا عزم سيدنا الشيخ أبو حسين علي شقير مغادرة الجبل والعودة إلى ديارِهِ العامرة ببركته وفضلِهِ أجمعت أراء سيّدنا الشَّيخ أبو حسین ابراهيم الهجري وأبناء الجبل، على توديعه بإقامة سهرة كبيرة تكون آخر الزيارات فتوجَّهت الوفود من روحاني وجسماني إلى قرية عتيل، وكان فيها مجلس كبير جدّاً وقديم منذ عهد الإفرنج مسقوف بقناطر وله مربد كبير واسع جدّاً
أُقيمت السَّهرة فيه حتى اكتضَّ بالوفود المشاركة لتوديع البطل المقدام. وفي أثناء السَّهرة، غفا الشَّيخ علي حيناً ثم رَفع نظره وقال للجموع أريد أن تخرجوا جميعاً من المجلس. وأصر على ذلك، فَذُهِلَت الجموع من ذلك وحاروا في أمرهم. فقال لهم سيدنا الشَّيخ أبو حسين ابراهيم: اقبلوا خاطر الشَّيخ. ورَكِب جواده متوجِّهاً إلى بلدته قنوات عاتباً على الشَّيخ أبو حسين علي شقير الذي حثَّ الجموع على الخروج طالباً منهم إخراج كل ما في المجلس من أثاث
وبعد أن خرج سيدنا الشَّيخ أبو حسين علي شقير من المجلس وهو آخر الخارجين منه سقط سقف المجلس إلى الأرض بقوَّة فصرخت الجموع : يا سيّدنا ويا حبيبنا. وبعثوا رسولاً إلى سيدنا الشَّيخ أبو حسين ابراهيم الذي كان قد قال: الله يسامح الشَّيخ علي على هذا الخاطر. قال الرسول : يا شيخنا لولا الشَّيخ أبو حسين علي شقير لكانت حَلَّت كارثة على الدُّروز وروى له ما حدث فقال: يستاهل الشَّيخ علي هذه الكرامة وعاد ماشياً على قدميه معترفاً لسيّدنا الشَّيخ أبو حسين علي شقير بالفضل وطالباً صفاء خاطره. رضي الله عنهما ونفَّعَنا ببركاتهما
عادَ سيدنا الشَّيخ أبو حسين علي شقير إلى دیاره فزاره المشايخ من أعيان البِلاد وغيرها للتبرك به والثَّناء على شجاعته. وزارته السِّت إم علي فاخرة البعيني رضي الله تعالى عنها وأهدته جوهرة ثمينة وهي الختمة الشريفة التي مازالت موجودة إلى وقتنا هذا في حجرته في عيحا رضي الله تعالی عنه، وهي من خَطّ الشَّيخ علي ضماد أهداها إلى سيدنا الشَّيخ علي فارس الذي أهداها إلى السِّت فاخرة البعَيني رضي الله تعالى عنهم أجمعين ونفعنا ببركاتهم آمین
وللشَّيخ کرامات كثيرة يضيق هذا المجال بها وله حجرة في عيحا تزار للتبرُّك بِهِ وله عَقَب حتَّى وقتنا هذا نَفَّعَنا الله وإِيَّاهُم ببركاتِهِ ، بِلُطفِهِ وَكَرَمِهِ
كان وفاته سنة 1256 هجري
ريدان سلمان شقير: ناشط إجتماعي وطالب جامعي اختصاص أدب عربي*