إثنا عشر شوقاً لشيخ المواقف التوحيدية

خاص لموقعنا

BaniMaarouf.org

إنها عبارة صغيرة في لحظة أليمة لشخصية كبيرة “لو جاؤوا بقاتل ابني في هذه اللحظة لسامحته”، بهذه الكلمات توجه العلم المرجع المرحوم الشيخ أبو صالح فرحان العريضي لحظة تبلغه بإستشهاد نجله البكر الشيخ صالح الّذي اغتيل بوضع عبوة ناسفة في سيارته، فواجه ألم فقدان الإبن بالرضى والتسليم، فهو “شيخ المواقف التوحيدية” مستمداً موقفه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم دعاؤه “اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء”. فالرضا أعلى درجة من الصبر

وبعد أربعة أشهر بالتمام والكمال على استشهاد نجله الشيخ صالح فاضت روح شيخنا الجليل إلى خالقها، راضياً مسلّماً مكرّساً مفاهيم التوحيد طيلة حياته فكان ناصراً للحق ونبراساً للعدالة ونبذ الفرقة ووحدة الكلمة

ولد المرحوم الشيخ في بيصور بتاريخ العاشر من شهر تشرين الثاني من العام 1931 م، والده الشيخ سعيد علي العريضي، ووالدته الشيخة الطاهرة لطيفة العريضي. غير أنّ فرحة أمّه به لم تكتمل ، فانتقلت إلى رحمته تعالى وهو في السنتين والنصف من عمره . وكان يقال عنها : “لو أمدّ الله بعمرها لكانت من النساء المميزات الفاضلات” رحمها الله

وقد إمتاز شيخنا الفاضل بالنجابة ومحبة الخالق منذ نعومة أظافره، فعندما كان قرابة الرابعة من عمره أحسّ الطفل فرحان بمحبة الله تعالى ، ولم يكن يعرف عظمة من أحبّ، إلاّ أنَّ ما غرس في جبلّته جعله يتّجه نحو معجن الخبز ليهدي من أحبّه رغيفاً ، فخرج وفي يده الرغيف ، ثمّ نظر فلم يدر كيف يصل إلى ربّه سبحانه، فأعاد الرغيف إلى المعجن، ولكنّ محبتة لمولاه وصلت نديّة، فتقبّلها الله تعالى منه مفعمة ببراءة الطفولة النقيّة

بعد ذلك بدأ يتردد إلى عبيه لتلقي العلم الديني في خلوة عين الشاوي، فالتقى في الخلوة بالطفل محمد فرج حفيد سيّدنا المرحوم الشيخ أبي حسين محمود فرج، فانعقدت بينهما أواصر المحبّة والمودّة بالله حيث يتنافسان على حفظ الكتاب العزيز وأفعال الخيرات. ومن خلال أخيه المرحوم الشيخ محمد تعرف المرحوم الشيخ فرحان إلى المرحوم سيّدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج فقرّبه إليه وجعله من خاصّة تلاميذه، وعامله معاملة الوالد الحنون لابنه، فكان من شدّة حبّه له يقصد منزل والد الشيخ فرحان، حتّى صار يعرف وهو في مقتبل عمره بتلميذ سيّدنا الشيخ

وبعد وفاة المرحوم سيّدنا الشيخ راح الشيخ فرحان يتردّد إلى خلوات القطالب مقرّ سيّدنا الشيخ أبي يوسف حسين هاني المتوّج بالعمامة المدورّة . وفي إحدى زياراته أمره الشيخ أبو يوسف بوضع العمامة المدوّرة على رأسه، فأحسّ بالخجل يسري في عروقه وكان يومها ابن ثلاثة وعشرين عاماً، فقطع الشيخ عليه ، وقال له الآن ضعها على رأسك ،  فوضعها على رأسه، ثمّ أردف قائلاً : ” عندما أخرج من مرضي فسأتوّجك بها ” إلا أن المنية وافته رحمه الله

انعقدت أواصر المحبّة بين المرحوم الشيخ فرحان والمرحومين الجليلين الفاضلين الشيخ أبي حسيب أسعد الصايغ والشيخ أبي حسن عارف حلاوي ، فكان يتردد إلى معصريتي طمعاً بالقرب منهما ، وهما المعروفان بمسالك الزهاد العبّاد سلاّك طريق الآخرة. وكان المرحومان يكلفانه وهو في متوسط العمر بالمهمات الصعبة التي تهدف الى تقريب وجهات النظر بين الاخوان في مختلف القضايا الدينية والاجتماعية، لانه مشهور بحبه وقربه من الجميع

لما بلغ المرحوم الشيخ ابو صالح فرحان، التاسعة والثلاثين من العمر طلب منه المشايخ الترشح لمنصب مشيخة العقل، لما كان يتمتع به المرحوم من صفات دينية واجتماعية ومواقف وطنية، وجرأة في إحقاق الحق، فإستجاب لطلبهم، ليس طمعا في منصب او مركز، بل بقصد الخدمة ومساعدة الناس. الا انه عاد وسحب ترشيحه لتوحيد منصب مشيخة العقل وقال “لن أكن يوما عقبة في توحيد صفوفنا لذلك اتنازل عن طلب الترشح لمنصب مشيخة العقل “. تجدر الاشارة الى ان العرف السائد آنذاك كان شيخي عقل

وقد كانت حياة المرحوم مليئة بصحبة كبار القوم من المشايخ الاجلاء حيث اخذ عنهم الكثير، وسمع منهم المواعظ والسير والنبذات عن السلف الصالح، وهو ايضا كان يتمتع بثقافة واسعة جداً، فطلب منه المشايخ تدوين تلك المحفوظات، فقام المرحوم بهمته العلية بالبحث والتنقيب عن مآثر الاعيان منذ ما يقارب ثمانماية عام، في بواطن الكتب والمخطوطات القديمة، يرافقه في هذه المهمة الشاقة والصعبة رقيق دربه الذي شاءت الاقدار ان تجمع بينهما رابطة المصاهرة، الا ان الرابطة التوحيدية كانت أكبر بكثير، عنينا به مدير عام مدارس الاشراق الشيخ  الدكتور وجدي الجردي. فبعد تسعة وعشرين عاما من العمل الدؤوب، أنهي المرحوم كتابه مناقب الاعيان. ومن المقدر ان تكون هذه السلسلة حوالي ستة  أو سبعة أجزاء صدر منها أربعة أجزاء، والأجزاء المتبقية سوف تصدر تباعا ان شاء الله بهمة مبوب الكتاب الشيخ وجدي الجردي

وتبادر الى سمع المرحوم الشيخ ابو صالح، خبراً مفاده أن في المكتبة الظاهرية في دمشق أخباراً حول حياة السيد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي (ق) عن الحقبة التي امضاها السيد الأمير (ق) في دمشق وهي إثنا عشر عاماً. فكلف القاضي ربيع زهر الدين بالبحث والتنقيب عن تلك المخطوطات وطلب منه تصويرها عن النسخ الاصلية منعا لاي إلتباس او شك بها. فكان ما طلبه وخرج الكتاب الى حيز الوجود بعنوان ” الرسالة الموسومة بنهر الجمان في شرح غريب آيات القرآن “، ليصبح مع “مناقب الأعيان” منارة تثقيف وإرشاد لكل طالب علم وساعٍ لمعرفة مآثر السلف الصالح

وبالإضافة إلى موقعه ومكانته الدينيّة والاجتماعية كان للشيخ وقفات وطنيّة مشرفة في سبيل عزة وكرامة أمتنا ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وقفته بوجه الاحتلال، فكان مع أهلنا في بيصور أول مَن شوّه صورة “الجيش الّذي لا يقهر” ففي صيف 1982 قارع الشيخ وأهالي بلدته جيش الاحتلال الصهيوني بالحديد والنار وأسروا منه ضباط وجنود رداً على إعتقال عدد من أبناء البلدة، فكانت “إنتفاضة بيصور” تؤكد المؤكد بأن العين تقاوم المخرز وبأنه مهما بلغت سطوة الباطل، فللحق رجال إن قالوا فعلوا

وبعد نيف وخمس سنوات على رحيل رفيق دربه المرحوم سيدنا الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، رحل عنّا في العاشر من شهر كانون الثاني 2009،  الندب الطاهر والبدر الزاهر، المكابد المجاهد، والقطب الزاهد،  الذي أزهرت بطلعته صدور المجالس، واشرأبّت لأحاديثه أعناق كلّ مقدام وقابس. جالس الأتقياء فجمّل بهيبته المحاضر، وناظر العلماء فأقرت لمنطقه الأكابر. إن تكلم فجواهر حديثه حكمة وخبر، وإن سكت ينبئك بسكوته عن دقة النظر. غوّاص على الكنوز في نهر الجمان، وبحّار يخرج اللآلئ والمرجان، وينظمها عقداً فريداً في مناقب الأعيان… رحمك الله يا شيخ المواقف التوحيدية شيخنا ومرجعنا الشيخ أبوصالح فرحان العريضي