لعيد الأضحى المبارك أهمية كبرى عند أبناء طائفة الموحدين الدروز، فهم كسائر إخوانهم من أبناء الطوائف الإسلامية، يعتبرون انه إذا كان الفطر بعد الصيام هو فرح بمائدة الطعام في الدنيا وهو رمز لفرح الطائعين الصابرين بريّ النفوس من رؤية الملك القدوس في الآخرة. فالأضحى هو العيد الأكبر حيث يأتي بعد مشقة الحج والتقرب إلى الله بالقربان المفروض
لذا فعندما يهل هلال شهر ذي الحجة من كل عام، تجري العادة لدى الموحدين الدروز على القيام بالعديد من الواجبات الدينية والاجتماعية، فيقصدون و يسعون بِنِيَّة البركة والاستفادة إلى المجالس والخلوات والمقامات والمزارات والمشايخ الأجلاّء طلباً لسماع التلاوة المباركة والمذاكرات الدينية، و تتبادل العائلات المعايدة استبراكاً في هذه المناسبة السنوية لتصفية القلوب وتجديد الصِلات وجمع الشمل وتقبل التهاني، آخذين بقوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[سورة المائدة2].0
كما يقوم الموحدون في الأيام العشرة الأولى التي تُسمى “عُشر العيد” من الشهر المبارك بالصلاة وزكاة أموالهم بالصدقات والحسنات، ويكثروا الدعاء والاستغفار ابتغاءً لمرضاة الله بالأعمال الصالحة واستشعاراً بقدوم العيد الكريم، ويحيي المشايخ لياليهم بالمجاهدة والتلاوة والاستغفار مستحضرين الآية الكريمة:{وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[سورة الفجر 1-2]، متمثلين الإحرام في جوارحهم وأفئدتهم سبيلاً إلى أن تكون نواياهم صافية لاستكمال معنى الأضحية، ومحوَرُ مقاصد “الأضحى” من الناحية الدينية هو التضحية التي يتوجّب تقديمُها إلى الله سبحانه وتعالى قرباناً إليه ودلالةً على الطاعة له
والقربان إسم لكل ما يتقرب به إلى الله تعالى، عرفه الإنسان منذ أيام الجاهلية. وقصة هابيل وقابيل التي هي خير شاهد على أهمية القربان، هي القصة الأولى في مسيرة الأنبياء منذ عهد آدم (ع). فقيل أن قابيل أراد ارتكاب معصية فنهاه أخاه هابيل، فلما تنازعا قال لهما والدهما قرِّبا قرباناً لله فمن قبل الله قربانه يُقبل قوله. فتقرَّب هابيل، وكان راعياً، بخير كبشٍ في غنمه فتقبَّل الله قربانه. وتقرب إلى الله قابيل، وكان مزارعاً، بأردأ ما كان عنده من القمح فلم يتقبل الله قربانه. ولما علم والدهما بالخبر هنأ هابيل وعزى قابيل وقال له تُب إلى ربك فغضب قابيل غضبّاً شديداً وقال لأخيه هابيل لأقتلنّك، فنستدل من هذه القصة على الإقرار بوحدانية الخالق تعالى، والاعتراف برُسُله وأنبيائه والنهي عن المحرمات والمخالفات
ولا بد لإدراك معاني الأضحى في المفهوم الإسلامي من العودة إلى سنّة النبي إبراهيم (ع) الذي عاش قبل الإسلام بألفين وخمسماية عام تقريباً، إذ رأى النبي إبراهيم (ع) في منامه رؤيا أن الله تعالى يأمره بذبح ولده، ورُؤيا الأنبياء “وحي”. فما كان من نبيّ الله إبراهيم(ع) بعد أن استيقظ من النوم إلا أن سَارع لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى دون تردد، فقال لولده لننطلق ونقرِّب قرباناً إلى الله عز وجلّ، فأخذا سكيناً وحَبلاً وانطلقا حتى سارا بين الجبال فقال له ولده يا أبت أين قربانك؟ فقال له إبراهيم (ع): {إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ } [سورة الصافات] (102) فاستسلم الغلام وقـال {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[سورة الصافات] (102)، فلما أسلما أي انقادا لأمر الله فإذا بصوت ينادي إبراهيم (ع):{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ – إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ – (أي الاختبار الظاهر) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [سورة الصافات 105 – 106- 107]، لقد أرسل الله عظمت قدرته لإبراهيم بذبحٍ وهو كبشٍ عظيم ذبحه فداءً عن ولده. وخيرُ ما يستدل من هذه القصة الطاعة لله عز وجل والرضى والتسليم لمشيئته تعالى، نعم الأضحى صلاةٌ ونحر أي تقدمة على سبيل الشكر. وقد قال المفسرون بأن الصلاة والنحر فسِّرتا بصلاة العيد، وهي الصلاة الخالصة لوجه الله، والنحر هو التضحية بأفضل الأنعام من خِيار مالِ العرب، لذلك كان لا بد للإنسان أن يقدم أفضل ما عنده لله تعالى
قال الله تعالى لخاتم الأنبياء وسيِّد المُرسلين (صلعم)،{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[سورة الكوثر 1-2]، هي دعوةٌ للنبي(صلعم) للصلاة والنحر، شكراً على ما تقدم من عطية المولى بالخير الكثير، ودليلٌ على أن وعد الله محتوم، والدنيا فرصة العطاء، وما قوله تعالى:{لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}[سورة النساء 147] إلا اشتراط للزيادة بعد الشُكرِ على ما تقدم من إحسان منهُ. وقد ورد في حديث قدسي: يا عبدي أنا كريم فكن كريماً، أنا رحيم فكن رحيماً، أنا شكور فكن شكوراً. والأضحى هو تجسيد للحديث في أسمى صُوَرِهِ، وكل صلاة طاعة هي عيد، وكل قربان طاعة هو عيد، لمن يفقه معنى القرب بالذكر والبذل في سبيل الله، لأنه استيداعٌ في خزائن الملكوت يراه بعين اليقين من كان من المحسنين، وهي سمة المتقين، وعنهم قال جل شأنه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر 45]. وقال أيضاً: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ – وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ – وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات 17-18-19].0
وإذا كان معنى القربان التقرُّب إلى الله والافتداء من عذاب جهنَّم، والمؤمن يُقَدِّمه في الأضحى، فإنه احتفال يتجاوز الحدودَ التاريخية ليكون عيداً بفرح الآخرة التي لم يأتِ زمنها بعد، وهي أبديّة لا انتهاء لها، أي لا تاريخ يحدِّد نِهايَتَها، فأعمال الإنسان هي ميزان ربحه وخسارته، وأعماله الصالحة في الدنيا تجمع له في الآخرة. وكم نشعر أننا بحاجة إلى فعل التضحية بكل صدق في حياتنا اليومية وفي مسيرة مجتمعاتنا وأوطاننا والإنسانية جمعاء من اجل تأكيد إنسانيتنا شباباً وكباراً، أوليس الواجبُ يدعونا للتضحية ولافتداء الإنسان في داخل كـلِّ واحـدٍ منّـا، لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [سورة الزلزلة 7].0
والواجب على أبنائنا أن لا ينسوا تراثهم وعاداتهم التي تربوا عليها وتأصلت في أعماقهم، وإعتماد الصدق، والرضى والتسليم بأحكام الله تعالى والتمسك بالفضائل والمجاهدة بالعلم والعمل لما يعود بالنفع عليهم وعلى الأمة جمعاء. مع التشديد والتأكيد على المعاني الإجتمعية والدينية للعيد، فمن ناحية المعنى الاجتماعي، العيد هو يوم لتجديد وتقوية الروابط الاجتماعية. ففي هذا اليوم يتذكر الغني أخاه الفقير، ويعطف القوي على الضعيف، فيتصدق الناس الخيّرون وعندها تشمل الفرحة كل بيت، فلا تُشرق شمس العيد إلا والبهجة تغمر القلوب. أما في المعنى الديني، فالعيد هو شكر لله على تمام العبادة، كلمة لا يقولها المؤمن الموحد بلسانه فقط بل تختلج في قلبه رضاً واطمئناناً لتظهر في علانيته سروراً وابتهاجاً
وأخيراً، نسأل اللّه أن يحمل هذا العيد الخير والبركة على جميع اللبنانيين وكافة الموحدين المسلمين في كل أقطار المعمورة، وكل عام وأنتم بألف خير