بقلم أيوب مرعي أبو زور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(الجزء الخامس)
تحدثنا في الأجزاء السابقة عن عنصر التراب وعنصر الماء وعنصر الهواء، وأجبنا على السؤال التالي: كيف نحافظ على بريق ألوان الروح النورانية في كل من هذه العناصر، والآن نستكمل حديثنا عن عنصر النار، وسنجيب بإذن الله تعالى على السؤال نفسه: كيف نحافظ على بريق ألوان الروح النورانية في عنصر النار؟0
نكرر، هذه الكيف هي جوهر مسلك الإيمان الحق، فمن حقق هذا الجوهر كان من الفائزين في الدنيا والآخرة. وكما سبق وذكرنا سنتحدث نحن وإياكم عن كل عنصر على حدى، وسنبدأ من الأكثف إلى الألطف، أي بهذا الترتيب: التراب ثم الماء ثم الهواء ثم النار ثم الأثير.0
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن لكل عنصر من هذه العناصر بعدين: بعد روحاني (جوهر وأصل منشأه) وبعد مادي (تجلي للجوهر في هذا العالم المادي)، ولتحقيق استمرارية نقاوة وشعشعانية كل عنصر من هذه العناصر يجب على المؤمن أن يعتني بمسلكه بما هو ظاهر ومتجلي من جهة، وبما هو باطن وجوهري من جهة أخرى.0
رابعا: عنصر النار: يمثل عنصر النار الاحتراق، والاحتراق ينتج الطاقة والحرارة. والعناية بهذا العنصر تعد مهمة دقيقة، لكنها ممكنة لمن نجح في ترويض عنصر الهواء والسيطرة عليه وكان قد سبق له أن ضبط عنصري الماء والتراب بشكل جيد، عندها وبعون الله تعالى سوف يتمكن من أن يحقق الفوز والنجاح في هذا التحدي، وكما أشرنا سابقا إلى أن لطائر كل عنصر جناحان:0
_ الظاهر: النار كما أشرنا أنها تعبر عن حدوث عملية احتراق، بالتالي تزودنا بالطاقة والحرارة. وتتجلى النار في الطبيعة بعدة صور أهمها الشمس وهي مصدر الدفئ والضوء على هذا الكوكب. وتتجلى النار في الإنسان على مستويين: مستوى فيزيولوجي تتجلى في عمليات الأيض (الميتابوليزم والكاتابوليزم) التي تحدث داخل الخلايا. حيث أن الإنسان من المخلوقات ذات الدم الحار، أي أنه قادر على جعل درجة حرارة جسده عند درجة حرارة ثابتة 37 درجة مئوية، وذلك عن طريق توليد الحرارة الداخلية عندما يكون الجو الخارجي باردا. ومستوى نفسي على شكل مشاعر، ولطالما سمعنا توصيفات مثل: هذا يشتعل من الحماسة، وذاك يحترق من الغضب.0
_الباطن: وكما ذكرنا في حديثنا عن عنصر الهواء، فإن عند هذا المستوى نكون قد انتقلنا من بُعد الملموسات (التراب والماء) إلى بُعد المحسوسات (الهواء والنار)، فالنار أيضا نستطيع ان نحسها ونراها ولكننا لا نستطيع ان نمسكها بأيدينا، وعنصر النار في هذا البعد يمثل الإرادة والشجاعة التي تحكم أهدافنا وطموحاتنا، وكيفية معرفة شغفنا ورسالتنا في الحياة، وهو الوقود والدافع الخفي الذي يعطينا الحافز للوصول لما نريده وصولا لأقصى تعبير لذواتنا، ويمثل أيضا الشهوات الحسية مثل الطعام والجنس والرغبات الذهنية مثل الثراء والسلطة.0
إذا كان عنصر النار ضعيفا فلن يعرف الإنسان هدفه ولن يكون لديه الوقود والطاقة الكافية لتحقيق ما يريد تحقيقه، وسيجد أن كل شيء بلا معنى وستكون إرادته ضعيفة ولن يعرف شغفه، وسيستسلم للخمول، وسيفقد رغبته في الحياة، ويعيش حياته مكتئبا.0
ليس هناك طريقة مباشرة لتقوية عنصر النار في جسم الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يبتلع النار، بل يتم ذلك من خلال ضبط العناصر السابقة. إن ضعف عنصر النار يشي باضطراب في عنصر التراب، على مستوى جودة الطعام، قد يكون النظام الغذائي غير صحي، وبالتالي لا يحصل الجسم على الكميات الضرورية من المغذيات اللازمة التي تحتاجها خلايا الجسم لتقوم بوظائفها بشكل جيد، وذلك يؤدي إلى انخفاض إنتاجيتها وبالتالي انخفاض إنتاج الطاقة الحيوية وهذا ما يضعف عنصر النار، أو على مستوى أسلوب الحياة، مثلا عندما تكون أوقات النوم أكثر من عشر ساعات أو تكون خلال النهار، أو تكون ساعات العمل طويلة جدا أو في بيئة غير صحية، ونوع العمل لا يتطلب حركة جسدية أو تنقل فالجلوس الطويل خلف المكتب على الأمد الطويل يؤدي إلى تيبس وخمول العضلات. وفي الحالتين (نظام غذائي غير صحي، أسلوب حياة غير صحي) فإن عنصر النار يكون في معدلاته الدنيا، وهذا يعني عمليات حيوية غير نشطة، وبالتالي احتراق أقل وبالتالي تقل الحاجة للأوكسيجين في الجسم فيصبح التنفس سطحي وهذا يؤدي بالتالي إلى اضطراب في عنصر الهواء.0
إذا لمعالجة ضعف عنصر النار في الجسم يجب العمل على:0
تحسين جودة الغذاء: تناول ثلاث وجبات يوميا بانتظام بأوقاتها الصحيحة، الإكثار من تناول الفواكه والخضراوات، استهلاك اللحوم الطازجة، والابتعاد عن الأطعمة المعلبة والتوقف عن تناول الوجبات سريعة التحضير.0
تحسين جودة أسلوب الحياة: ممارسة الرياضة بشكل منتظم، المشي لمدة لا تقل عن نصف ساعة يوميا، الخروج إلى الطبيعة (حديقة، شاطئ)، النوم في الليل بمعدل ثماني ساعات والعمل في النهار، الإنخراط في أنشطة عائلية واجتماعية.0
ممارسة التنفس العميق الواعي الذي يؤدي إلى زيادة كميات الأوكسيجين التي تصل إلى الخلايا، مما يجعلها تنتعش ويساعدها على تحسين عملها.0
أما إذا كان عنصر النار زائدا سيصبح الإنسان عبدا لشهواته ورغباته، ويصير سعيه في حياته منحصرا بتلبية هذه الشهوات وتحقيق تلك الرغبات. وهنا أيضا من خلال التعامل مع العناصر السابقة يمكننا أن نلجم هذه النار المستعرة وننجح في ترويضها، من خلال التعامل معها بحزم وإرادة صلبة على مستويين متلازمين:0
مادي: الصوم، لأن من امتلأ بطنه بالطعام تحركت شهواته الحسية وجوارحه وحواسه الباقيه تريد الشبع أيضاً، وفكرة الصوم بسيطة وقديمة، فالطعام هو بمثابة الحطب الذي تأكله النار، فإذا منعنا الحطب عن النار سوف تأكل نفسها وتنطفئ، وهكذا شهوة الطعام، فالجهاز الهظمي بمثابة الموقد، عندما يفرغ هذا الموقد سوف تنطفئ ناره ويبرد، وللصوم أشكال متعددة، مثل الصوم عن نوع محدد من الطعام كالصوم عن المنتجات الحيوانية مثلا، أو الصوم عن كل أنواع الطعام لفترة زمنية محددة ليوم أو ثلاثة أو أسبوع الخ… ، التبتل وهو الصوم أو الامتناع عن العلاقات الجنسية لفترات زمنية محددة، أو الامتناع تام. أيضا الحفاظ على النظافة الشخصية، وأخذ حمامات مياه باردة، وممارسة الأعمال أو الرياضات التي تتطلب مجهود بدني كبير وتعمل على تفعيل العضلات وحرق كميات كبيرة من الطاقة، وممارسة تقنيات تنفسية تعمل على تبريد الجسم وكبح الشهوات.0
معنوي: توسيع آفاق الإنسان المعرفية، عبر قراءات تظهر له جوانب الحياة الأخرى، وقراءة سير الصالحين للاتعاض ولأخذ العبرة، وبأن الإنسان مخلوق مكرّم عن باقي المخلوقات بنعمة العقل، وكيف أن هذه الحياة ما هي إلا مرحلة يقضيها الإنسان على هذه الأرض وعليه أن يترفع عن الغرائز البهيمية وأن يتخلى عن التعلقات الدنيوية، بهدف اكتساب الخبرات الإيجابية عبر التزامه بالأعمال الصالحة ليزيد رصيده من الحسنات، وبأن السعي المستمر خلف الشهوات تجعله ينحط إلى مستوى الحيوانات، وتعلقه الشديد بالأمور الدنيوية تلهيه عن تطوره الروحي… مجالسة أهل العلم والمعرفة والاستماع إلى إرشاداتهم، زيارة الأماكن المقدسة للتبرك، التحلي بالصدق، والالتزام بقول الحق، تنظيف القلب من الكره والحقد بالمسامحة والصفح، مساعدة المحتاج، والإحسان لكل الناس… وبالابتعاد عن معشر السوء، والتخلي عن العادات القبيحة، وعن الأعمال السيئة، وعدم الاقتراب من المحرمات والمعاصي، وعدم الكذب والغيبة والنميمة، وعدم التلفظ بالسوء، وعدم الأذية…0
وإذا ما نجح السالك بأن يروض شهواته الحسية ويكبح لجام رغباته الدنيوية بعد أن يكون قد سيطر على فكره وروضه وشحذ قواه الذهنية والعقلية، يكون قد ترقى وتنقى إلى مستوى يخوله الولوج في عوالم الوعي النورانية، وهذا هو البُعد الأرقى بين هذه الابعاد الخمسة، حيث لا ملموس ولا محسوس، هناك لا وجود إلا لنور الوعي وحرارة العقل. وفي هذا البعد لا مكان لطرح الأسئلة وخصوصا للسؤال السابق: كيف؟ لكن نقول للحديث تتمة…0
أيوب مرعي أبوزور: كاتب وشاعر لبناني من بلدة تنورة قضاء راشيا، حائز على ماجستير في علوم البيولوجيا من كلية العلوم في الجامعة اللبنانية