إضاءات عرفانية – الجزء الرابع

بقلم أيوب مرعي أبو زور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(الجزء الرابع)

تحدثنا في الجزئين الثاني والثالث عن عنصري التراب والماء، وأجبنا على السؤال التالي: كيف نحافظ على بريق ألوان الروح النورانية في كل من هذين العنصرين، والآن نستكمل حديثنا عن عنصر الهواء،  وسنجيب بإذن الله تعالى على السؤال نفسه: كيف نحافظ على بريق ألوان الروح النورانية في عنصر الهواء؟0

نكرر، هذه الكيف هي جوهر مسلك الإيمان الحق، فمن حقق هذا الجوهر كان من الفائزين في الدنيا والآخرة. وكما سبق وذكرنا سنتحدث نحن وإياكم عن كل عنصر على حدى، وسنبدأ من الأكثف إلى الألطف، أي بهذا الترتيب: التراب ثم الماء ثم الهواء ثم النار ثم الأثير.0

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن لكل عنصر من هذه العناصر بعدين: بعد روحاني (جوهر وأصل منشأه) وبعد مادي (تجلي للجوهر في هذا العالم المادي)، ولتحقيق استمرارية نقاوة وشعشعانية كل عنصر من هذه العناصر يجب على المؤمن أن يعتني بمسلكه بما هو ظاهر ومتجلي من جهة، وبما هو باطن وجوهري من جهة أخرى.0

ثالثا: عنصر الهواء: يتمثل عنصر الهواء كما واضح من اسمه بالهواء المحيط بنا بكل مركباته الغازية من أوكسيجين وكاربون ونيتروجين وبخار ماء وغيرها… والعناية بهذا العنصر لا تعد مهمة سهلة، لذلك على من اختار أن يسلك هذا الطريق أن يكون قد نجح في ضبط عنصري الماء والتراب بشكل جيد، حتى يتمكن من أن يفوز في هذا التحدي الجديد، وكما أشرنا سابقا إلى أن لطائر كل عنصر جناحان:0

_ الظاهر: التنفس وهو عملية استنشاق الهواء وخصوصا عنصر الأوكسيجين الذي يؤمن استمرارية البقاء على قيد الحياة للإنسان، والهواء كغاز لديه ضغط يتغير بحسب الارتفاع والانخفاض عن مستوى سطح البحر له دور أساسي في ضبط توازن الجسم عن طريق معادلة الضغط خارج الجسد وداخله عبر مكانيكا معقدة أهمها الموجودة في الأذن الوسطى الموجودة داخل تجويف الرأس.0

-التنفس: وتُعَد عملية التنفس أهم عملية فيزيولوجية يقوم بها جسم الإنسان على الإطلاق، حيث أن الشهيق يزود خلايا الجسد بغاز الأوكسيجين الضروري لعمليات الأيض داخل الخلايا، ويتم طرد غاز ثاني أوكسيد الكربون الناتج عن عمليات الأيض في الخلايا إلى خارج الجسد عبر الزفير. ويعتبر وجود عملية التنفس دليل على الحياة، وغيابها دليل على الوفاة. وتختلف جودة التنفس من منظور صحي بحسب عدة عوامل منها:0

عامل ذاتي على مستوى ميكانيكا التنفس أي العملية الحركية بذاتها، لها عدة أشكال، تنفس سطحي، تنفس عميق، تنفس سريع، تنفس بطيء، تنفس صدري، تنفس بطني، الخ… فالتنفس العميق يدخل كمية أكبر من الهواء إلى الجسم من التنفس السطحي، وبالتالي تحصل خلايا الجسم على كمية أكبر من الأوكسيجين وهذا ما يزيد من نشاطها وفعاليتها، والتنفس البطيء يمنح الجسم الفرصة على الاسترخاء وتهدئة الأعصاب، بينما التنفس السريع يعمل على جعل الجسد في حالة استعداد وتأهب ويستخدم عادة في حالات الطوارئ مثل الهروب من خطر مفاجئ،  وأثبح هناك مدارس حديثة تعلّم الناس أنواع مختلفة من تقنيات التنفس.0

عامل خارجي على مستوى جودة الهواء الداخل إلى الرئتين من حيث خلوه من الملوثات والغازات السامة ومن حيث غناه بالأوكسيجين، فالهواء في القرى التي تحافظ على طابعها الزراعي والسياحي يعتبر أغنى بالأوكسيجين من الهواء في المدن، لأن الغطاء النباتي من أشجار ونباتات يعمل على تنقية الهواء من الشوائب ويعمل على امتصاص غاز ثاني أوكسيد الكاربون الموجود في الهواء وضخ الأوكسيجين إلى الهواء في عملية تسمى التمثيل الضوئي. ومن جهة أخرى يعتبر الهواء في المدن مشبعا بالغازات السامة الصادرة عن مداخن المعامل والمعدات الصناعية والسيارات وغيرها، عكس القرى. أما قمم الجبال المرتفعة فبالرغم من نقاوة الهواء فيها إلا أنه فقير بغاز الأوكسيجين، حيث أن كلما زاد الارتفاع عن مستوى سطح البحر كلما أصبحت عملية تغذية الجسد بالأوكسيجين أضعف وأصعب وبالتالي يصبح التنفس أقل جودة.0

– ضغط الهواء وتأثيره على الجسم: الهواء موجود حول الكرة الأرضية على شكل عدة طبقات، تسمى الغلاف الجوي، ونحن نعيش على سطح الأرض لذلك كل هذا الهواء الموجود ظمن الغلاف الجوي يضغط على أجسامنا، ولأننا ولدنا في هذه البيئة واعتدنا عليها منذ طفولتنا فقد لا ندرك أو لا ننتبه لهذه الحقيقة، فالهواء الموجود في الغلاف الجوي لديه ثقل كبير ويضغط على كل الأجسام الموجودة على الأرض بقوة كبيرة، ومع ذلك فنحن لا نشعر به، والسبب في ذلك أن ضغط السوائل الموجود في داخل جسم الإنسان يعادل الضغط الجوي الواقع عليه. ويكون الضغط الجوي عند مستوى سطح البحر في أعلى معدلاته وينخفض كلما ارتفعنا عن سطح البحر، وقد سجل العلماء بأن الضغط الجوي في أعلى مكان على سطح الأرض وهو قمة “أفيرست” أقل بمعدل ثلاث مرات عما هو على مستوى سطح البحر. ولأن الإنسان مخلوق متحرك غير ثابت فتارة يكون على شاطئ البحر وتارة يصعد إلى الجبل، فلا بد له أن يمتلك القدرة على موازنة هذا التغير في الضغط الذي يتعرض له، وهنا يأتي دور الأذن الوسطى التي أبدعها الله تعالى، ولذلك مثلا عندما نسافر لمسافات طويلة نشعر بالضغط في أذنينا لأنهما تحاولان موازنة الاختلال الذي حصل في قيمة الضغط الجوي حيث كنا وبين الضغط الجوي الذي نحن به الآن (أي أثناء السفر). لذلك وجب العناية بالأذن من حيث النظافة أولا، ومعالجة أي إلتهاب تتعرض له، ثم ينصح الأطباء بتجنب الاستماع للموسيقى الصاخبة لمدة طويلة وخصوصا في الأماكن المغلقة، والتقليل من استخدام سماعات الأذن بكل أشكالها، كل ذلك قد يؤدي إلى اضطراب الضغط في الأذن الوسطى وقد تؤدي إلى انثقاب غشاء طبلة الأذن.0

_الباطن: عند هذا المستوى نكون قد انتقلنا من بُعد الملموسات (التراب والماء) إلى بُعد المحسوسات (الهواء والنار)، فالهواء هو هذا الفضاء الذي نستطيع ان نحسه ونستشعر وجوده ولكننا لا نستطيع ان نلمسه ولا أن نقبض عليه في يدنا، وتختلف درجة إحساسنا به باختلاف حالاته، مثلا أثناء التنفس فقط عندما نضع تركيزنا نستطيع ان نستشعر دخول الهواء من فتحات الأنف، بينما عندما تهب نسمة ربيعية لطيفة تفرض وجودها فتمنحنا إحساسا بالانتعاش، وعندما يغضب يصير ريحا هوجاء.0

يمنحنا عنصر التراب الثبات والتماسك وهو ما يمنحنا هذا الشكل الذي يتخذه الهيكل العضمي، بينما عنصر الماء يمنحنا الليونة والمرونة وهو ما يسمح لجسدنا أن يتحرك وينتصب وينحني ويستلقي الخ… ، وأما الهواء فيمنحنا الإحساس بالخفَّة والتحرر، وعندما يختل توازنه عند صاحبه سيجعله متحجر الذهن، لا يتقبل أقرانه ولا يستطيع رؤية الأمور والحلول من منظورها الأسمى والأشمل، وسيصبح صاحبها متحيزا لجهات معينة دون الأخرى (التعصب والتشدد)، ويصبح أسيرا لمعتقداته وأفكاره وستصبح حياته مليئة بالفوضى ويعجز عن إيجاد الحلول لمشاكله، ويعيش فاقدا للوعي ولمفهوم الحرية وسيظل خائفا من فكرة التحرر، وسيفقد اهتمامه بمعرفة الحقيقة، وستكبّله فكرة العبودية والخضوع لمن هو أعلى وأقوى منه، ويتملكه الإحساس بالاختناق والضيق.  هذا لأن عنصر الهواء يحكم عالم الأفكار والمنظورات والقدرات العقلية والذهنية، والقدرة على استقبال العلوم والمعارف وإدراك الحقائق واتساع المدارك وازدياد الذكاء.0

أدركت مختلف الفرق الباطنية على مدار تاريخ الإنسانية أهمية التنفس، وطورت الكثير من هذه  الفرق تقنيات تنفس تساعد مريديها في تحقيق التطور على الطريق الروحي، ولكنها أبقت هذه التقنيات خارج متناول أيدي العامة لقرون عديدة، لأن هذه التقنيات ليست مجرد تعليمات شفهية يمكن تنفيذها بعد قراءتها في مخطوطة من هنا أو من هناك، بل هي بحاجة إلى أن تُدَرَّس على يد مدرب خبير أو معلم ينقل إلى المريد بشكل مباشر الإرشادات اللازمة لاتقان هذه التقنيات. ومن بين هذه الفرق البوذية التي طورت تقنيات خاصة بها وعرف هذا المذهب بمذهب “الزن”، وكذلك فعلت الهندوسية التي طورت تقنيات تنفس خاصة بها اشتهرت باسم (البراناياما) كفرع من فروع مذهب “اليوغا”، وفي الديانة اليهودية عند أتباع مذهب “الكابالا”، وفي الديانة المسيحية عرفت عند قدماء الرهبان النسطوريين، وعند أتباع الديانة الإسلامية عرفت عند مشايخ الطرق الصوفية والعرفانية.0

واليوم بعدما أصبحنا نعيش في عصر الانفتاح والتواصل والتفاعل بين كافة شعوب الأرض كُشف اللثام عن غالبية هذه التقنيات وتفاعلت بين بعضها البعض، وأصبح هناك أشكال جديدة لهذه التقنيات تطورت خارج  أروقة الفرق الباطنية على أيدي أناس محدثين، وأصبحت تُعلّم في مدارس خاصة منتشرة في معظم دول العالم.0

صحيح بأن هذه التقنيات تختلف من فرقة إلى أخرى، ومن مدرسة إلى أخرى، لكنها من حيث الجوهر لا تختلف كثيرا، حيث أنها جميعها تعتمد على مبدأين: الأول إحضار الوعي لعملية التنفس، أي أنها تحولها من عملية لا إرادية أوتوماتيكية وتجعلها عملية إرادية تخضع تحركات العضلات فيها للتحكم من قبل العقل الواعي للانسان، ومن جهة أخرى هذه الحركة الإرادية تمكن الإنسان من مراقبتها، وبذلك يتحقق الشرطان الجوهريان المشتركان بين كل تلك التقنيات وهما: الوعي بالتنفس، ومراقبة التنفس.0

وبإتقان هذه التقنيات يصبح العقل قادرا على زيادة القدرة على التحليل والتخطيط، والتركيز في وسط الفوضى، وعلى المرونة الفكرية، والذكاء، وقوة الذاكرة، وشدة الذهن، والانفتاح الذهني، والشجاعة لتقبل وتجربة الأمور الجديدة، ويعطي القدرة على التكيف ورؤية الصورة الكبرى. وتزداد القدرة على حماية العقل من التلاعبات والأفكار المسمومة والمشبوهة، والقدرة على بناء وتشكيل درعا عقليا متينا يمنع عملية زرع الأفكار في رأسك ممن حولك من الناس والمجتمع ووسائل الإعلام والإعلان، ويجعلك واعٍ ومدرك لكل ما يدخل الى عقلك ويخرج منه.0

أما على مستوى أعمق فيمكننا من تحقيق تطور وخلق تصور ورؤى جديدة لم تكن متاحة لنا من قبل، إن كان على مستوى إدراك عوالمنا الداخلية (النفسية والعقلية، وحتى الفيزيولوجية)، أو على مستوى أبعد وهي العوالم الروحية.0

وعندما ينجح السالك بأن يوازن عنصر الهواء في جسده وسيطر على فكره وروضه وشحذ قواه الذهنية والعقلية يكون قد امتلك القدرة على الدخول في التحدي التالي، والذي لا شك أنه أشد صعوبة، ولكن بعدما يكون قد حقق توازن عنصري التراب والماء من قبل، يكون قد اكتسب القدرة على الصمود والثبات في مسعاه وامتلك القوة الجسدية والذهنية اللازمة للسعي نحو السيطرة على عنصر النار، هذا العنصر المتمرد الذي يصعب التعامل معه، لأن ، وكما أشرنا سابقا، أن التعامل في هذا البُعد يصبح على مستوى الأمور المدركة اللاملموسة، ولا يعود بأشياء مادية يمكن السيطرة عليها، أما السؤال كيف؟ نقول للحديث تتمة…0

أيوب مرعي أبوزور: كاتب وشاعر لبناني من بلدة تنورة قضاء راشيا، حائز على ماجستير في علوم البيولوجيا من كلية العلوم في الجامعة اللبنانية