بقلم أيوب مرعي أبو زور
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(الجزء الثاني)
توقفنا في المقالة السابقة عند السؤال التالي: كيف نحافظ على بريق ألوان الروح النورانية في كل عنصر من العناصر الخمسة؟0
هذه الكيف هي جوهر مسلك الإيمان الحق، فمن حقق هذا الجوهر كان من الفائزين في الدنيا والآخرة. لنتحدث نحن وإياكم عن كل عنصر على حدى، وسنبدأ من الأكثف إلى الألطف، أي بهذا الترتيب: التراب ثم الماء ثم الهواء ثم النار ثم الأثير. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن لكل عنصر من هذه العناصر بعدين: بعد روحاني (جوهر وأصل منشأه) وبعد مادي (تجلي للجوهر في هذا العالم المادي)، ولتحقيق استمرارية نقاوة وشعشعانية كل عنصر من هذه العناصر يجب على المؤمن أن يعتني بمسلكه بما هو ظاهر ومتجلي من جهة، وبما هو باطن وجوهري من جهة أخرى.0
أولا: عنصر التراب: يتمثل عنصر التراب في كل أنسجة الجسد، العظام، العضلات، الأوتار، الأعصاب، الأعضاء الداخلية، الجلد، الاسنان، الاظافر، والشعر. والعناية بهذا العنصر هي المهمة الأسهل.0
وكما أشرنا سابقا إلى أن لطائر كل عنصر جناحان:0
_ الظاهر: وهو كل ما يؤمن استمرارية البقاء على قيد الحياة، تناول الطعام الصحي، تحقيق الأمن والأمان، النوم، ارتداء الثياب، الاحتكاك مع عنصر التراب على الأرض، العمل والحركة وممارسة الرياضة.0
-الطعام يجب أن يكون صحيا، فإن كان من اللحوم فالأفضل أن يكون طازجا ومن مصادر موثوقة، وليس مستوردا مجلدا أو مبردا ولا نعلم منشأه ولا كم مر عليه من الزمن، ولا يكون معلبا محشوا بالمواد الصناعية والمواد الكيماوية والمواد الحافظة. وإن كان من الألبان والأجبان أو أي منتج من مشتقات الحليب أيضا، فالطازج أفضل من المعلب، والمعلب المحلي معروف المنشأ أفضل من المعلب المستورد مجهول المنشأ، وكذلك الأمر لكل المنتجات النباتية، فالطازج أفضل من المجفف، والمجفف أفضل من المعلب، والمعلب بحالته الأولية أفضل من المصنع والمعلب، وأي طعام صالح من مصدر محلي أفضل من الطعام المستوردة، على سبيل المثال العنب والتفاح مثلا أفضل لشخص من سكان لبنان من المانجا والأناناس، بينما المانجا والاناناس أفضل لسكان البلدان الاستوائية من العنب والتفاح، لأن خواص الجسد الترابي أقرب إلى خواص تراب بلاده، ومن زاوية صحية ذلك لا يعني ألا نستهلك الطعام المستورد أبدا، لكن أن يكون الإعتماد الأكبر على المنتجات المحلية لا المستوردة.0
-الأمن والأمان يجب أن يطلب الأمن والأمان أولا من الخالق عز وجل، بالتوكل على الله قبل كل شيء، ومن ثمة بالعمل بالأسباب، أي لا ندخل في النار مثلا ونطلب من الله ألا نحترق، ولا نعيث فسادا في الأرض ونخلق لأنفسنا العداوات مع الآخرين، أو نقوم بما يخالف القانون في البلاد التي نسكنها، ولا نعتدي على أحد، ولا نؤذي الآخرين، الخ…0
-النوم الكافي: لجسدك عليك حق، والنوم حق من حقوق الجسد علينا، فهذه الخلايا التي يتكون جسمنا منها، وهذه الأجهزة التي تعمل في جسدنا وهذه الأنسجة التي تشكل جسدنا كلها تسبِّح الله عز وجل، وحقها علينا أن يدخل الجسد في حالة النوم لمدة كافية كل يوم كي تشحن نفسها بالطاقات النورانية التي لا تقدر على استقبالها إلا عندما يدخل الإنسان في حالة النوم، وذلك لكي تستطيع الاستمرار بالقيام بمهامها.0
-ارتداء الثياب: لم تعد غاية الثياب في وقتنا هذا فقط للستر، بل أصبحت من مقومات الحياة وخصوصا في الإحتماء من البرد القارس في الشتاء، ومن أشعة الشمس الحارقة في الصيف، ولذلك لا بد من حسن التعامل مع الثياب في حياتنا اليومية، وهذا معروف للجميع حيث أن البرد يستدعي ارتداء الثياب الثقيلة كالمعاطف والسترات الواقية من الماء لمساعدة الجسد على الحفاظ على حرارته الداخلية، وفي الحر ارتداء ثياب خفيفة مريحة فضفاضة لا تعيق الجسد عن عملية تبريد نفسه.0
-الاحتكاك مع عنصر التراب على الأرض: بالحقيقة جسدنا المادي جزء لا يتجزأ من كوكب الأرض، إنه امتداد متحرك متنقل لكنه بحقيقته تراب لا يختلف عن الكوكب بشيء فهو منه وإليه يعود، ولذلك من الواجب الحفاظ على هذا الاحتكاك وعدم الانسلاخ عن الجسد الأكبر الذي هو الطبيعة أي كوكب الأرض، والانسلاخ يكون بالعيش في الغابات الإسمنتية المسماة مدنا، في البنايات العالية، والتنقل الدائم بوسائل النقل من سيارات وحافلات وقطارات وطائرات، وإن حدث السير على الأقدام يكون على الإسفلت، وهذا كله يضر بتوازن عنصر التراب فينا، ولذلك يجب أن نبقي أجسادنا على احتكاك وتماس مع الأرض، عبر السير حفاة على الشاطئ أو في الحدائق مثلا، والذهاب إلى الغابات والجبال والبراري والجلوس على الارض والاستلقاء اذا أمكن، وزراعة الزهور والأشجار والمزروعات، فبالزراعة تتواصل أيدينا مع التراب بأفضل طريقة فهي تساهم في إنبات حياة جديدة، وبقطاف ثمار الأشجار في المواسم أيضا.0
-العمل والحركة: من جهة كلنا نعلم بأن العمل عبادة، ومن جهة أخرى الله جل جلاله جهز جسم الإنسان ليكون قادرا على الحركة والقيام بالأعمال البدنية وكل شخص وقدرته، لا أن ندع جسدنا فريسة للكسل والخمول، فالعضلات يجب أن تتمدد وتتقلص لتحافظ على حسن أدائها لوظيفتها، والمفاصل أيضا يجب أن تتحرك، وحتى الأعضاء الداخلية والقلب ايضا، فالكسل والخمول وعدم الحركة من أشد العوامل التي تضعف من فعالية وإنتاج الجسد، وبالتالي يصبح أكثر عرضة للأمراض.0
وكل ما يؤدي إلى اختلال في توازن عنصر التراب سيؤدي حتما إلى أمراض، وما الأمراض إلا تجليات لإعتام وخفوت ألوان الروح النورانية بصورة حسية في الجسد، لذلك الاهتمام بطريقة استخدام الجسد وبصحته وعافيته يعني بشكل مباشر الاهتمام بألوان الروح النورانية فيه.0
باطن: وهو تحقيق ما سبق وتم ذكره بما يرضي الله تعالى، ويصون أمانته ويخفف من كثافة عنصر التراب الموجود فينا، ويزيد من لطافته، فالجمر كثيف لكنه ألطف من الحطب، وهكذا عنصر التراب الكثيف يمكن جعله كالجمر عوضا عن أن يكون حطبا.0
-العمل: ليست كل الأعمال متساوية في البعد الروحاني ولو تساوت في البعد المادي، فالذي يعمل مزارعا في أرضه يحرثها ويزرعها ويحييها، ليس مثل الذي يعمل في مقلع، فالأول عمل لطيف أما الثاني فكثيف. والكاتب الذي يكتب كتابات نورانية مرهفة راقية انسانية، ليس كالكاتب الذي يكتب قصص الرعب والقتل والذبح والدماء. والرسام الذي يرسم لوحات تظهر إبداع الخالق، ليس كالرسام الذي يرسم الرسوم البشعة التي فيها دم وقتل، والمخيفة التي فيها إجرام وشرور، والمسيئة التي تسيء لأفراد أو جماعات أو حضارة والخادشة للحياء التي تتعارض مع القيم الأخلاقية السامية المتعارف عليها في كل أقطار الأرض، وموظف المصرف الذي يعمل بالربا، ليس كموظف حسابات أمين وشريف في معمل للنسيج مثلا، وعناصر القوات المسلحة ليسوا كالموسيقيين، وعازف الطبل ليس كعازف الناي، وقيسوا على ذلك، كلما ازداد العمل لطافة كلما انعكس ذلك إيجابيا على الجسد.0
-الحركة: مثل العمل ليست كل الحركات متساوية، هل الاعتداء الجسدي والمادي على الأشخاص والأملاك العامة والخاصة يتساوى مع مساعدة عجوز في حمل أشياء ثقيلة، أو مساعدة رجل أعمى على قطع طريق، هل السير في أرض مزروعة واتلاف المزروعات يتساوى مع السير بعيدا عن الأرض المزروعة وتجنب الدوس على أي زرع. فلتكن حركتنا واعية ومصحوبة بضمير حي ليصح فيها القول “الحركة بركة”.0
-الرياضة: وكذلك في الرياضة، فألعاب الكرة (كرة قدم، كرة سلة، الخ…) ألطف من ألعاب القتال (مصارعة، ملاكة، الخ…)، والحركات السويدية ألطف من ألعاب الكرة، والسباحة ألطف من الحركات السويدية، والجومباز ألطف من السباحة، واليوغا ألطف من الجومباز، والسجود ألطف من اليوغا.0
-الاحتكاك مع عنصر التراب على الأرض: لكي يساهم هذا في توازن عنصر الأرض في أجسامنا يشترط أن يكون احتكاكا إيجابيا، أو محايدا، لكن لا يصح أن يكون احتكاكا سلبيا، مثالا على ذلك، السير في البرية، يكون إيجابيا إذا ترافق مثلا مع زرع بذور أو شتول، أو مع عملية ري لشتول وأزهار. ويكون سلبيا إذا ترافق مثلا مع قطع الأشجار، أو الاعتداء على الشتول والزهور والمزروعات، أو رمي نفايات سامة، وملوثات كالقمامة والبلاستيك. ويكون محايدا إذا لم يترافق بأي عمل نافع أو ضار. وكلما تآلف الجسد مع الطبيعة الأم كلما كان ذلك في صالحه، وكلما تنافر مع الطبيعة الأم كلما اضطرب.0
-ارتداء الثياب: الثياب على احتكاك مباشر مع جسدنا، لذلك لها تأثير قوي ومباشر، وعليه يجب استخدام ثياب مصنوعة من خامات طبيعية مثل القطن والكتان، لأن هذا يحافظ على توازن عنصر التراب في الجسد، والابتعاد عن ارتداء الثياب المصنوعة من جلود الحيوانات لأنها تحمل في ذراتها ذاكرة الجسد الميت للحيوان المأخوذة منه، وكذلك يجب تجنب ارتداء الثياب المصنوعة من أنسجة صناعية مثل البوليستير وغيرها، لأن هذا يسبب خلل في عنصر التراب في الجسد.0
-النوم الكافي: صحيح أن النوم مهم بل ضروري وأساسي للجسد، لكن هناك ساعة بيولوجية في كل جسد، تنظم عمله بالتوازي والانتظام مع مكونات الكون بأسره، وذلك عبر منظومة غاية في الدقة وهي إحدى إبداعات الخالق الأكثر دهشة في الجسد، وهذه المنظومة هي منظومة الغدد الصماء التي تنظم فرز مواد سحرية في مجرى الدم تسمى “الهورمونات” تتحكم بأحوال الجسد وخصوصا النوم، فقد خلق الله النهار للعمل والحركة والليل خلقه للنوم والسكون، لذلك أفضل النوم يكون عندما يحل الظلام، ولا يصح أن يسهر الإنسان الليل بطوله وينام نهاره، وهناك أوقات إذا نام الجسد فيها طويلا يؤثر سلبا على عافيته، مثل أوقات الصباح، وأوقات الظهر. وأجمع كل العارفين أن الاستيقاظ مع الفجر وقبيل شروق الشمس فيه الكثير من الإيجابية، حيث يستفيق الجسد الأصغر مع استفاقة الجسد الأكبر أي الطبيعة، وهذا يحقق توازنا مذهلا إذا استمر الإنسان عليه.0
-الطعام: يعتبر الطعام الأقوى تأثيرا على حسن حالة الجسد وبالتالي توازن عنصر التراب فيه، لأن الطعام يدخل الجسد ويمتزج معه فيصبح جزء منه، فلذلك اختيار الطعام الذي يدخل جوفنا يجعلنا إما قادرين على تشييد هيكل متين صلب وحصين ثابت وإما يجعلنا نحيا في هيكل متصدع وعلى وشك الانهيار في كل لحظة. وجودة أو سوء هذا الاختيار يتوقف على شرطين:0
الشرط الأول أن يكون الطعام حلالا، فالطعام الحرام وإن كان “صحيا” يدخل الى الجسد وكأنه سمٌ زعاف، أما الطعام الحلال يدخل على هيئته الأصلية، وحسن تأثيره على الجسد مرتبط بمدى جودته.0
نوع الطعام وجودته هو الشرط الثاني: وجودة الطعام في البعد الروحاني بعد أن يكون قد تحقق فيه الشرط الأول أي أن يكون حلالا، ولا يحلّ للسالك تناول الطعام إلا بعد أن يذكر اسم الله عليه بنية المباركة والشكر والحمد، ومن ثم تعتمد جودة الطعام على أصله، وهذ ترتيب الطعام من حيث الكثيف إلى اللطيف على الشكل التالي:0
اللحوم الحمراء: أي لحوم الحيوانات العاشبة مثل الأبقار والأغنام…0
اللحوم البيضاء: أي لحوم الطيور الداجنة كالدجاج والبط…0
لحوم الأسماك وثمار البحر على أنواعهم…0
منتجات الألبان والأجبان ومشتقات الحليب…0
الفطر الصالح للأكل بكل أصنافه…0
الجذور: الجزر، الفجل، اللفت، البطاطس، الشمندر…0
الحبوب: القمح، الذرة، الأرز، العدس…0
البقول: الحمص، الفول، الفاصوليا، البازيلاء…0
الخضار: الخيار، الكوسى، الباذنجان،…0
الورقيات: نعناع، بقدونس، بقلة، زعتر، خس، ملفوف…0
الفواكه: تين، عنب، تفاح، برتقال، رمان، مشمش، دراق…0
نعم، السر يكمن في معرفة نوع الطعام الذي يدخل جوفنا، لأن ما يحمله الطعام من طاقات وأحوال ومركبات غذائية سوف يتشربها جسدنا ونتأثر بها، وعلى سبيل المثال: قد يسأل السائل لماذا اللحم البقري أكثر كثافة من لحوم الأسماك؟0
الجواب: لأن الأبقار على وعي أعلى من الاسماك، لذلك عندما يتم قتلها يتشبع لحمها قبيل أن الموت بذاكرة التعرض للاعتداء والأذية، لأن لديها هذا الإدراك، ويتشبع أيضا بذاكرة الخوف والرعب لأن لديها أيضا مشاعر. بينما السمك أقل وعيا من الأبقار، لديه إدراك الأذية والاعتداء عندما يتم إخراجه من الماء وقبيل أن يموت، لكن ليس لديه مشاعر، لذلك لحمه مشبع بذاكرة الأذية لكنه خالٍ من ذاكرة مشاعرية، لذلك هو أقل تأثيرا سلبيا على الجسد من لحم الأبقار، وبالتالي يعد أيضا أقل كثافة. أما الألبان والأجبان فلأنها منتجات حيوانية، وبالتالي فهي تحمل ذاكرة ما عاشه الحيوان أثناء حياته ولكنها أقل كثافة من اللحوم لأنها لا تحمل ذاكرة القتل والموت.0
وعليه، فأن السالك إذا استطاع أن يحقق توازن عنصر التراب في جسده عبر هذه الطرق التي سبق شرحها، يصبح جاهزا ليبدأ في خطوته التالية وهي تحقيق توازن عنصر الماء في جسده، كيف؟ للحديث تتمة
أيوب مرعي أبوزور: كاتب وشاعر لبناني من بلدة تنورة قضاء راشيا، حائز على ماجستير في علوم البيولوجيا من كلية العلوم في الجامعة اللبنانية