بقلم سارة العريضي
كما تدين تدان، كما تزرع تحصد، لك مثل ما فعلت يومًا، كلّ ساقٍ سيسقى بما سقى، وأعمالكَ تردّ إليك… كلّها أمثالٌ كثيرةٌ لمفهومٍ واحدٍ. مبدأ كما تدين تدان؛ هو قانونٌ كونيّ اتّفقت عليه جميع الأديان، فأهل الحقّ تمسَّكوا به وعملوا بما أمرهم الخالق الأحد، أمّا أهل الباطل فتغافلوا عنه عمدًا متَّبعين طريق الشَّرّ غير آبهين للحقّ وغير معتقدين بوجود الثواب والعقاب من جهةٍ وبوجود الآخرة من جهةٍ أخرى.0
يقتصرُ فهمنا لذلك القانون “كما تدين تدان” على أنّه مفهوم ظاهريّ، أو مجموعة من الكلمات الفانية والزائلة، كأنَّها حروفٌ عابرة! لكنَّها على عكس ذلك، فهي تحمل مبادئ العدل من جهة، والثَّواب والعقاب من جهة أخرى! فكم نحن بحاجة لصقل عقولنا وتنمية ذاتنا، فوالله لو علمنا وتعمَّقنا بهذا المبدأ لكنّا من الصالحين في الدنيا والخيّرين في الآخرة.0
هل سمعتم يومًا برجلٍ زرع بذورًا صالحة وحصد ثمارًا رديئة؟ أو بامرأة زرعت بُستانها أزهارًا فوّاحة، وحصدت نباتاتٍ شوكيّة؟ بالطبع لا، فمن يزرع بذور الخير يحصد زرعًا صالحًا. وحال النَّفس الإنسانيّة كحال التُّربة والبستان؛ الإنسان بعقله وإرادته يزرع البستان نفسه كما يشاء، ويستطيع أن يملأه بذور الأعمال الخيّرة، ومن جهة أخرى يمكنه أن يغرس فيه بذور الحقد والكراهية… إنّه ليس مثالًا ظاهريًّا وإنَّما حقيقة عميقة وواقعيّة. فمبدأ الحصاد تردّد كثيرًا في الإنجيل المقدّس، فطرح هذا المثال تماشيًا مع الحياة السائدة آنذاك، ،فالزراعة كانت وما تزال إكسير الحياة والبقاء… لقد أكّد الإنجيل المقدّس على أهمّيّة هذا القانون وحقيقته الدامغة، فقد ورد فيه “لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ”. و أيضًا “هذَا وَإِنَّ مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ”. وكذلك ذكر السيّد المسيح في كتابه المقدّس “الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.”0
فمبدأ كما تدين تدان كان يطبَّق عند العرب قديمًا وبالفطرة، وخاصّة بعدما جاء الإسلام ونزل القرآن الكريم الذي بات هدى وبشرى لأهل الحقّ. وأنعم الخالق على الأنام بإظهار بعض الحكم والقوانين والمناهج التي لا تتبدّل ولا تتغيَّر، فأكَّد سبحانه أنَّ كلّ الأنام ستجازى بما عملت. فكلّ الأعمال الخيِّرة ستكافئ عليها وكلّ الأعمال السيّئة ستعاقب عليها. كما قال سبحانه وتعالى في الآية الثامنة من سورة الزلزلة: {مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}. كذلك ورد في الآية المئة والاثنين والأربعين من سورة النساء، الكريمة: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}…0
بجانب ذلك قال أحد الصالحين: “البرّ لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديّان لا يموت، افعل ما شئت فكما تدين تدان”. 0
قال الإمام علي ابن ابي طالب رضي الله عنه: “وخالف من خالف ذلك إلى غيره، ودعه وما رضي لنفسه. وضع فخرك واحطت كبرك، واذكر قبرك؛ فإنّ عليه ممرّك، وكما تدين تدان. وكما تزرع تحصد. وما قدمت اليوم تقدم عليه غدا؛ فامهد لقدمك، وقدم ليومك. فالحذر الحذر أيّها المستمع! والجدّ الجدّ أيّها الغافل!”0
فهذه السِّنّة أو القانون لا تقتصر على معاملة الناس لبعضهم فحسب، أو في الحياة الحاضرة فحسب، أي أنَّه قانونٌ ظاهريّ مؤقّت، وإنَّما هو قانونٌ عميقٌ يشمل الثواب والعقاب والآخرة والقدر…0
أتعلم أنَّ كلّ شيء مرتبط بك أيُّها الإنسان، فإذا كنتَ ساعيًا وراء الفضيلة، متمسّكًا بالمحبّة، سائرًا بنور قلبكَ، سامعًا لضميركَ، راضيًا مخلصًا متواضعًا، خاشعًا للخالق مؤمنًا به، عاملًا بتعاليمه، صادقًا وخلوقًا كانت نفسك خيِّرة وحصادك يكون صالحًا، والله كريم محبّ. أمّا إذا كنتَ ساعيًا وراء الرذيلة، سائرًا سبيل الكره، جاريًا وراء ظلمة أفكارك، ناكرًا جاحدًا متكبّرًا متغطرسًا، كاذبًا وسارقًا فزرعك يابس لا محالة، ويبقى الخالق غفورًا رحيمًا فاتحًا باب التوبة لمن اهتدى.0
بجانب ذلك أكّدت بعض الأديان كالهندوسيّة والبوذيَّة والابانيشاديَّة، أهمّيّة هذا المبدأ وعظمته. فالكارما التي تعني العمل أو الفعل، هي مفهوم أخلاقيّ من المعتقدات الهندوسيَّة والبوذيَّة واليانيَّة والسيخيَّة والطاويَّة… فجميع هذه الأديان الهنديَّة اتّفقت على مبدأ كما تدين تدان، وإنَّك أَيُّها الإنسان إذا فعلت الخيرَ حضيتَ بالخير وإذا سلكتَ طريق الشَّرّ حصلت على الشَّرّ. يُقال يقوم مبدأ كارما على ما يعرف “بالقانون الأعظم” وهو قانون السَّبب والنتيجة، أي وراء كلّ سببٍ نتيجة مماثلة… كذلك يوجد مبدأ يُسمّى الكارما السلبيّة وهي أنَّك إذا فعلت أشياء خاطئة تضرُّ الآخرين فبالتالي ستكون العاقبة عليك سلبيّة، لتصحيح المسار، ولفَكّ لعنة “الكارما السلبيَّة” يلجأ الإنسان لتطبيق الأعمال الخيِّرة وبالتالي يعيد توجيه البوصلة، ويصحِّح مسار حياته.0
كذلك شدَّد بعض العلماء كإسحاق نيوتن على أهمّيّة هذا القانون حينما قال: لكلّ فعل ردّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتّجاه. وهذا ما يعرف بقانون الفعل وردّ الفعل…0
يقال: “كما تدين تدان، ليس فقط في الانتقام، بل ستدان حين تجبر خاطرًا او تزيل همًّا او تسعد شخصًا سيأتي اليوم الذي يدان لك جميلك”. فإنَّنا نؤمن بعدالة الخالق وكرمه، وبمحبّة أولياءه لنا، فهذا المبدأ بسَط العدل، وجمَّل الكون، كذلك حفّزنا للارتقاء والإصغاء إلى ذواتنا أكثر، كذلك لمعاملة الناس بطريقة راقية، لطيفة، ومليئة بالمحبَّة المقدَّسة.0
فكم من ابن كان برًّا لوالديه وسندًا وعونًا لهما، وعندما كبر وأصبح عجوزًا، عومل بالطريقة ذاتها، وكم من شخصٍ ضحّى وأعطى وزرع في نفوس الآخرين الفرح والسعادة، وبعد فترة وجيزة شرب من الينبوع ذاته، ينبوع المحبَّة والسَّلام. فالعطاء تضحية وكلّما تذوّقت طعم العطاء روى الله قلبك بالطمأنينة، وكلّما استبصرت هذا القانون العظيم تعمّقت في فهم بواطن الحياة وحقيقتها.0
ما أروع أن نتذوَّق كلامنا قبل البوح به! وأن نفكِّر مليًّا قبل أن نسير طريق الظلمة! فهذا القانون هو المحور الذي يجب أن ترتكز عليه أفعالنا، فالخالق حثَّ المؤمن على أن يكون نقيًّا متسامحًا يعمل الصالحات، كما ذكر في الآية العاشرة من سورة فاطر الكريمة: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ}. فإنَّك أَيُّها الإنسان مصدر سعادتك، وبإمكانك أن تجعل ذاتك بستانًا زاهيًا مليئًا بطيور المحبّة وفراشات الأمل، ومن جهة أخرى يمكنك أن تجعل ذاتك أرضًا قاحلة، جرداء لا تصلح للحياة، مليئة بالأشواك. ولكن أتعلم أَيُّها الإنسان أنَّك تستطيع البدء من جديد. فكلّ يومٍ فرصة جديدة وهديّةٌ ثمينة لتصحيح المسار. عسى أن نكون من الخيّرين في الدنيا والآخرة ويبقى الخالق كريمًا محبًّا.0
وأخيرًا، فإنّ تطبيق مبدأ كما تدين تدان وكما تزرع تحصد، يجعل الإنسان يحلِّق في فضاء الفضائل، ويغوص في أعماق محيط الحقائق، فلو كنّا على يقين دائم أنّنا سنحاسب على كلِّ فعلٍ لكانت أفعالنا مكسوّة برداء الإيمان ومزيّنة بدرر التقوى.0
سارة العريضي: متخصصة بالتربية الحضانية، دبلوم بالتعليم، وطالبة أدب عربي