بقلم شادي عزام
ولد سيدنا الشيخ ابو حسن عارف حلاوي في شباط 1899، في الباروك قضاء الشوف . وتوفي عن عمرٍ يُناهز 104 أعوام في عام 2003؛ حيث كان رمزاً للخير والمحبة والعطاء، وهو يعدّ من أرفع المرجعيات الدينية لدى طائفة الموحدين الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين
كانت نشأته مميزة، إذ سلك مسلك التقوى والورع، بل علّم نفسه بنفسه محاسباً ذاته منذ الصغر. رافق من بداياته المشايخ السلف أصحاب العمائم المدوّرة كالشيخ أبو حسين محمود فرج والشيخ أبو يوسف حسين هاني والشيخ أبو يوسف سليم البيطار والشيخ أبو فارس محمود عبد الخالق
لم يدخل الشيخ حلاوي جامعة ولا درس في معهد، ولم يقرأ لفلاسفة العصور القديمة والحديثة، ولا حفظ أشعار القدامى والمحدثين، إنما حفظ الحكمة وفهم شروحها وتعمّق في مفاهيمها ومعارفها، وأبحر في بحر علومها فكان عنواناً في الاخلاق والاداب وكانت سيرته ومسيرته مدرسة تفوق ما في الجامعات وما بلغه الاساتذة الكبار
توّج المرحوم الشيخ حلاوي بالعمامة المدورة وهو في الـ35 من العمر الى جانب المرحوم الشيخ أبو حسيب أسعد الصايغ، والد زوجته وذلك على يد الشيخ أبو حسين محمود فرج. كان ضليعاً في اللغة العربية وشاعراً بالفصحى، أتقن الخط النسخي بمنتهى الدقة على قاعدة القرآن الكريم
أمضى الشيخ حلاوي الجزء الاكبر من حياته في بلدة “معصريتي- قضاء عاليه”، الى جانب الشيخ أبو حسيب أسعد الصايغ والد زوجته,فسار على خطى عمه وتتلمذ على يده مكتسباً منه علومه وتقواه
وفي عام 2003 شاءت الأقدار ان ينتقل الى جوار ربه في بلدة الباروك يوم الاربعاء السادس والعشرين من شهر تشرين ثاني، مسلماً الروح حيث تم دفنه في بيته في اليوم التالي في الساعة الثانية بحضور عشرات آلاف المشيعين الذين عرفوا فضيلته واستأنسوا به وسروا بلقياه….فجاء أكثر من 200 الف شخص لتشيع عميد الهيئة الروحية ولإلقاء النظرة الاخيرة على جثمانه الطاهر
كان الشيخ حلاوي رمزاً للصمود في الجبل في اقسى سنواته العجاف إبان الحرب الاهلية والاجتياح الاسرائيلي، رافضاً التعدي على أحد، ليلعب لاحقاً دوراً بارزاً في إعادة المهجرين الى قراهم، فكان رمزاً من رموز العيش المشترك لا سيما بعد انتهاء الحرب
ليس غريباً أن نستحضر قامة كالمرحوم سيدنا الشيخ أبو حسن عارف، بعد مرور 18 عاماً على رحيله، وفي هذا الزمن بالذات، هذا الزمن الصعب حيث لا قيمة للانسان كما لا قيمة للاوطان، فكيف بنا والبلاد تنزف جراحها على وقع بربرية لم يعرف الشرق لها مثيلًا
يحيي الموحدون اليوم هذه الذكرى السنوية لرحيله، فيما تحاصرنا النيران من كل حدب وصوب، وفيما تنهار منظومة القيم التي لطالما قام عليها لبنان، فهذا الوطن الصغير بحجمه، الكبير بدوره، يعيش لحظات تاريخية بأمسّ الحاجة فيها للعودة الى الجذور والى وجهه الحقيقي، والعودة الى المساحة الرحبة بين ابنائه
مسيرته
تميّز شيخنا الفاضل بالصوت الجميل، وامتاز بقدرته على تلحين الأناشيد الدينية، كما أنعم الله سبحانه وتعالى، عليه بالخط الحسن حيث كان يسعى الى نسخ الكتب الدينية. هذا وقد بقي المرحوم الشيخ خلال عشرات السنوات، أحد أركان الدين وأحد الشخصيات المركزية التي يُعتمد عليها ويُأخذ برأيها
وفي العشر سنوات الأخيرة من حياته، اعتُبر شيخ الجزيرة في مقدمة العبّاد ، النساك الزاهدين، وحظي بمكانة مرموقة، لصفاته الخاصة وتصرفاته النبيلة وأعماله المجيدة في كافة المجالات
عام 1979 توفي الشيخ أبو حسيب أسعد الصايغ فأصبح الشيخ حلاوي صاحب العمامة المدورة الوحيدة في لبنان، حتى اذار 1988 عندما توج الشيخ الراحل بالعمامة المكلوسة كلاً من المرحوم الشيخ ابو محمد جواد ولي الدين, والمرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري والمرحوم الشيخ أبو ريدان يوسف جابر شهيب
مسلكه و نهجه
لقد قضى طيلة حياته صائماً متعبداً محسناً، يأكل مرّة واحدة يوميّاً يقتات بأبسط المأكولات، و كلها من اعشاب و نباتات الارض، هذا رغم إمكانياته الواسعة. يقدم لضيوفه أشهى المأكولات و يحرمّها على نفسه عرف نفسه حق المعرفة، و كان سيّدها و يسيطر عليها سيطرةً تامةً
كان يرى ان قصارى غايات الانسان ان يسعد سعادة ابدية في جوار ربّه. كان هذا منطقه في الحياة، و لذا رأى حياة الدنيا فانية، و ما هي الاّ مرحلة عمل و تمهيد واعداد لحياة اخرى خالدة. لذلك صرف معظم امواله في الاحسان و الصّدقة. و كان يردّد و يقول: بأن ما تبذله يمينك ، يجب ان لا تعرف به شمالك و نقلاً عن الاتقياء: بأنه كان يحصل على مالاً كثيرا ويصرفه كله في سبيل الله
لقد كان يضحّي بكل غالٍ و ثمين، يكافح و يناضل دون كللٍ او يأس من اجل الاهداف الدينيّة التوحيدية، ورفع رايتها و تعزيز كيان رجال الدين الحقيقيين. فكان لهم دعامة و مرجعا يستقون من منهله، و يتشجعون بإيمانه مطمئنًّا لهم مهوّناً عليهم مصائبهم، مساعداً لهم في جميع امورهم
شهادات رجال دين و فكر و علم في حضرته
كان المرحوم الشيخ مشاركاً لأبناء طائفته والآخرين, في كافة المناسبات الدينية والاجتماعية, يهنئ أصحاب الأفراح، ويواسي المحزونين، ويدعم ويشجع الأيتام والأرامل، ويقدّر جهود الناس التي تبحث عن لقمة العيش، وعن مسلك شريف في الحياة فيباركها. وقد عُرف بالزهد والنسك والتقوى والبساطة وحسن الاستقبال، وسعة الصدر ومساعدة الآخرين. وقد ابتهج بلقياه كل مَن زاره, وحظي بمقابلته، وقد علّق المشايخ على وفاته قائلين “الطائفة الدرزية تخسر رجلاً فذاً وشخصية مرموقة وعلماً دينياً من أكابر الاعلام. لقد قابلنا المرحوم، وتعرّفنا عليه ولا زلنا نذكر فيه حسن الأستقبال و صفات اهل العلم و الدين”.0
وكما و كانت لافتة شهادة المرحوم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين حيث قال:”نفتقده علماً توحيدياً وأخاً كبيراً وأباً مرشداً ومرجعاً سنداً سما بروحه الطاهرة، ارتقى بفكره الثاقب في معارج الحقيقة، حتى بلغ أرفع الدرجات، فانعكس ذلك مسلكاً قويماً، والتزاماً صادقاً، تميز بالورع والتقوى وازدان بالعفاف والطهارة، فحقق خلاصه ومنزلته العالية، واكتمل سعده . كم طائفة الموحدين الدروز بحاجة لحضوره وبركته في كل الأوقات.”0
كانت الطائفة الدرزية ترى فيه سيد العقل والحكمة وحسن الرأي في الأوقات الصعبة والملمات إلى جانب قيمته الصوفية وقيمته في الحكمة التصوفية الإسلامية الدرزية، كان من رموز الصمود أثناء حرب الجبل، ومن رموز تثبيت العلاقة الوطنية والقومية مع سوريا، من رموز العيش المشترك ولاسيما بعد انتهاء الحرب
كان المرحوم سيدنا الشيخ نبراساً مضيئاً يهدينا بهدي السلف الصالح، فما علينا إلا التعلّق بهذا النور الساطع، والعمل والمثابرة والاجتهاد، والتضرّع إليه تعالى أن يُنير بصائرنا بالتوحيد، ويؤلّف قلوبنا على الطاعة والمحبة والسلام
رحل الولي الشيخ وبقي أثره راسخاً في عقل وقلب من عرفه هدياً ونبراساً، وعلماً توحيدياً ومنارة فكر مضيئة، وراعٍ للوحدة والوفاق. كم نفتقده رحمه الله
ففي مثل هذا اليوم، اجتمع لبنان في وداع الشيخ في الباروك، فكان في رحيله جامعاً كما في حياته، التقى اقطاب الدولة رغم خلافاتهم، وعلى امل ان تكون ذكراه مناسبة ايضا للوحدة والجمع
في الذكری السنوية الثامنة عشر لغياب ولي الله والعارف به سيّدنا المرحوم الشيخ ابا حسن عارف حلاوي، تبقى اجيال تروي لأجيال عن شيخ جليل، ناسك، طاهر، لم يعرف الزمان له مثيل حيث كان وسيبقى قدوةٌ للعدل والعدالة والصدق والأمانة والوفاء المطلق للدين والوطن
المرجع: إن بعض المعلومات الواردة في هذا المقال مأخوذة من مقال للصحفي الاستاذ نادر حجاز، بعنوان “عن الشيخ أبو حسن عارف في ذكرى رحيله”وتم نشره حينها في جريدة صدى البلد بتاريخ ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٥
شادي عزام : ناشط شبابي وطلابي