بقلم عبير نصر
صفحات التاريخ هي منبر الحقيقة فهي تدون الماضي والحاضر والمستقبل للأجيال فالمحررون لهم صفحاتهم، والطغاة لهم صفحاتهم، ورجال الدين لهم صفحاتهم، والفلاسفة والحكماء والعباقرة والشعراء وحاملوا الاوسكار وأباطرة الكرة كل هؤلاء لديهم صفحات تنقل الحدث بكل تفاصيله الدقيقة الى الاجيال، فالتاريخ يصف اللحظة الإنسانية والثورية والفلسفية في أدق صورها فيحظى الانسان الباحث عن الحرية ببقعة ضوء خالية من الثقوب السوداء تروي مسار الاحداث لكي يزركش مفردات ذاكرته بالمعرفة والفكر والفلسفة
ولكن لصفحات التاريخ خفايا واسرار … فالتاريخ يملك الكثير من الأسرار والخفايا الّتي لم يعلن عن أحداثها ووقائعها كاملة بل قدمت مفردات وسطور ميتافيزيقية مليئة بعلامات الاستفهام تجعل الانسان يخوض معركة خاسرة مع العقل والمنطق والفلسفة فبرغم توفر كل وسائل المعرفة والثقافة في هذا العصر ، تبقى هنالك بصمة لا يمكن إقتفاء أثرها والسبب يعود أن صفحات التاريخ لم تعلن عن الاحداث التي حصلت خلف الكواليس فهنالك علامات بارزة ظهرت على الساحة العالمية ولكن التاريخ تجاهل سرد وقائعها بصورة دقيقة وفضّل على ذلك السرية والكتمان فكانت فصولها ومشاهدها تعاني الغموض والشح في تقديم الصورة الكاملة لكي تروي عطش الباحث في العثور على الحقيقة في سطر التاريخ
ومن تلك الصفحات نذكر الحرب الاهلية اللبنانية التي انطلقت شرارتها في الثالث عشر من نيسان عام ١٩٧٥، والّتي تعتبر إحدى الاحداث المحاطة بكم هائل من الاسرار و الألغاز فلقد كان يطلق على لبنان سويسرا الشرق وكانت بيروت عاصمة وجامعة للفن والثقافة والفكر والفلسفة، فتحولت في متاهات وتضاريس الحضارة البشرية الى بؤرة للحرب والعنف والتدمير في لحظة فارقة لا تنتمي الى الزمن!!؟؟0
فالأطراف والفصائل المتحاربة في لبنان كانت عبارة عن مجموعة من المكونات الرئيسية للحياة السياسية اللبنانية، فالحركة الوطنية اللبنانية كانت مظلة لمجموعة من المجاميع القتالية والجبهة اللبنانية كانت كذلك، اضافة الى الدور الغامض الذي أدته فصائل منظمة التحرير الفلسطينية
فالقتال الدموي أدى الى تجزئة لبنان إلى مقاطعات ومناطق تسيطر عليها ميليشيات الاحزاب اللبنانية، وبين ضفاف الأيام انشطرت بيروت الى شرقية وغربية واصبحت مدينة تسكنها الاشباح فلبنان كانت سيد التطور والتقدم والتمدن في السبعينيات، وكان يشار إليه كمركز تجاري وثقافي وسياحي فالطبيعة الخلابة والحرية الفردية وقوة القطاع الخاص، كلها أمور أدت إلى أن يستحوذ لبنان على قلوب الملايين من البشر فهو كان يمثل التنوع والاختلاف والانفراد نحو تطبيق المنهج المثالي لطريقة العيش والحياة ولكن ما الّذي أدى الى نشوب هكذا حرب دامية احرقت هذه الارض الجميلة… فإن سردنا الاسباب التي تستروا خلفها لإندلاع الحرب، نرى ان لبنان ليس البلد الوحيد في العالم الذي يحتضن عشرات الطوائف من السنة والشيعة والموارنة والارثذوكس والكاثوليك والأرمن والدروز، كما انه ليس الوحيد الذي يحتضن تشكيلات عديدة من الاحزاب والتيارات والقوى السياسية، لكن الخلل يكمن ان كل جهة من الجهات المتنازعة أرادت لبناناً خاصاً بها وفق شريعته وقوانينه ومبادئه، وكل فئة كان لها ميلشيا خاصة بها يقودها زعيم حرب… أضف الى ذلك امور ساهمت في تسريع واشعال نار الفتنة والحرب، كعمليات الاغتيال والتفجيرات والتدخلات الخارجية الدولية ادت الى تفاقم حدة النزاعات حول ملكية لبنان
كل هذا أدى الى انهيار لبنان فلقد تحولت المباني الشاهقة والفنادق الضخمة ومؤسسات الدولة الى ثكنات عسكرية تحتلها مجاميع قتالية تابعة لحزب اومنظمة او زعيم حرب واندلعت الاشتباكات في ما يسمى بقتال الشوارع وبات القناصون يقتلون المارة واصبح القتل على الهوية لعبة يمارسها كل المتحاربون بحجة المحافظة على العرق والدين والطائفة
فلبنان عبر مرحلة صعبة في تاريخه منذ انطلاق الرصاصة الاولى في ١٣ نيسان ١٩٧٥، يوم بوسطة عين الرمانة، إنه الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فيصح القول إنها ليست رمانة، إنها قلوب مليانة. وصولاً الى اجتياح العدو الاسرائيلي لبيروت في حزيران ١٩٨٢. حتى أن ساسة هذا الوطن باتوا يمثلون كومة من الالغاز التي لم تفك شيفراتها في هذا العصر فتراكمت علامات الاستفهام حول مفهوم هذه الحرب الفريدة والنادرة من نوعها. هذه الحرب التي دامت ١٥ عاماً، قبل التوصل إلى اتفاق الطائف، وقد عرفت مراحل مختلفة: نزاع يمين ويسار، اسلام ومسيحيون، شيعة وشيعة، موارنة وموارنة، ولم يستطع أحد أن يلغي الآخر
حتى جاء اتفاق الطائف الذي أوقف النزاع المسلح لكنه لم يوقف الحرب الأهلية. ليس مهماً أن تُخرج الإنسان من الحرب فحسب، المهم أن تُخرج الحرب من عقل الإنسان. فإتفاق الطائف يشبه الميثاق الوطني، النصوص ممتازة لكن التطبيق لا علاقة له بالنص. فقد نص الميثاق الوطني على تعايش مشترك بين المسيحيين والمسلمين، وفي التطبيق امتيازات سلطوية لمسيحيين على حساب شركائهم. وفي الطائف، مناصفة اسلامية مسيحية وفي التطبيق، هيمنة اسلامية وتهميش مسيحي
وقعت الاطراف المتنازعة على وثيقة الطائف وتوقفت المعارك، لكن بقيت شواهد الحرب كالمباني المدمرة والشوارع المكتظة بالحجارة تحكي قصص واساطير حول ما حصل في سنوات الحرب من قتل وتدمير وسفك لدماء اللبنانيين
ومنذ ما بعد الطائف الجميع يرفع الشعارات ذات المستوى العالي، لكن جل همه مواقع يحتلها هنا أو هناك. والجميع يبحث عن حل من داخل النظام الطائفي القائم، وهو نظام وصل إلى عنق الزجاجة، نظام طائفي لا يترك آثاره على أهل البلد فحسب، بل يضع الكيان في مهب الريح، نظام يمكن أن يضحي بالكيان، للمحافظة على ما يمكن الحصول عليه، في محاصصة و كل فريق يسعى لتكون الحصة الاكبر لصالحه
ختاماً، ففي الذكرى السادسة والاربعين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، نرى أنه لا بديل عن مؤتمر تأسيسي يؤسس لقيام دولة مدنية ديمقراطية مواطنوها متساوون بالحقوق والواجبات بغض النظر عن طوائفهم وانتماءاتهم، لأنه من المستحيل أن يبني النظام الطائفي دولة لمواطنيه. وما يبدو في الأفق هو انهيار للسلطة والكيان. وكل مجموعة تسعى للاستقواء مباشرة بخارج يستخدمها بدلاً من أن تستخدمه. وهذه المرة يكون انتداباً متصارعاً بدلاً من انتداب متفق عليه
عبير نصر : ناشطة شبابية وإجتماعية