ورقة بحثية حول الدروز وموقفهم من الربيع العربي
من سلسلة مقالات حول أقليات المشرق العربي
بقلم د.فيصل مصلح – بيروت
لمحة تاريخية
من المعلوم من جميع ما نشر من بحوث تاريخية علمية حول السكان الذين يؤلفون اليوم سكان المشرق العربي أن الموحدين الدروز لا يختلفون من حيث أصولهم العرقية عن هؤلاء السكان ، لذلك فإن تاريخ الدروز يشكل جزءاً أساسياً ومحورياً من تاريخ المشرق العربي. فمن حيث التحديد الجغرافي يوجد الدروز في بعض المناطق الجبلية الواقعة بين حلب وإنطاكية في شمال سوريا أي منطقة جبل السماق وفي مناطق القسم الأوسط من جبال لبنان الغربية ووادي التيم في البقاع وسائر القرى الممتدة على سفوح جبل الشيخ الشرقية والغربية وتصل الى منطقة صفد في فلسطين بالإضافة الى مناطق داخلية قرب دمشق وتواجد مهم في جبل حوران بالإضافة إلى الأردن
الطائفة الدرزية هي نتاج الإنقسام الديني الكبير الذي حصل في الإسلام بين السنة والشيعة وهي طائفة منحدرة من الإنقسام الذي طال المذهب الشيعي الذي إنقسم الى عدة طوائف، حيث بدأت دعوة التوحيد الدرزية بعد تسلم الحاكم بأمر الله شؤون الخلافة الفاطمية. حيث بدأ كبار العلماء في الدولة الفاطمية بتحضير الناس لولادة مذهب جديد وقد لعبت دار الحكمة دوراً بارزاً في ذلك. ودار الحكمة هي صرح علمي كبير حوى على أكثر من مليون وستمائة ألف كتاب وقدم إليها العلماء والمفكرين وعامة الناس وتم ترجمة كل الكتب المتوفرة من الحضارة اليونانية والفارسية والهندية وتم تعليم الناس في هذا المكان حيث اصبحت دار الحكمة في ذلك الوقت أي في عام 1020 ميلادي أهم مكان علمي وأدبي وفلسفي وكافة العلوم وعلى أنواعها وأصبحت منارة للعنصر البشري بأكمله حيث كانت أوروبا غارقة في عصور الظلام
مع سيطرة الدولة الفاطمية على بلاد الشام وإنتشار دعوة التوحيد الدرزية في أوائل القرن الحادي عشر للميلاد، أخذ الدروز يشكلون تدريجياً جماعة متماسكة ذات عقيدة مذهبية واحدة، وبسبب إعتناقهم الدعوى الجديدة تعرضوا للكثير من الإضطهاد والتنكيل على يد قوى سنية حاكمة متشددة، بيد أن الدروز استطاعوا إجتياز مرحلة الإضطهاد هذه بفضل ما أوتوا من الشجاعة والصبر والثبات في العقيدة فضلاً عما تميز به قادتهم من الحنكة السياسية والمقدرة العسكرية. بعد تمكن الدروز من إجتياز مرحلة إشهار مذهبهم أي إعلان أنفسهم فرقة مستقلة من الإسلام عملوا على جعل موقفهم السياسي منسجماً مع السلطة السياسية الحاكمة شرط أن لا تقوم هذه السلطة بإضطهادهم
لم ينقض القرن الحادي عشر ميلادي حتى استعاد الدروز دورهم السياسي العسكري البارز الذي مثله أسلافهم في بلاد الشام قبل ظهور دعوة الدروز بفعل تضحياتهم العسكرية من جعل مناطقهم حاجزاً للدفاع عن المناطق الإسلامية الداخلية، واظهروا في المعارك العديدة التي خاضوها ضد الصليبيين مقدرة عسكرية وشجاعة فائقة
لا شك أن قتال الدروز الدائم ضد الصليبيين قد أعطاهم الكثير من التقدير والإحترام في أعين خصومهم وأصدقائهم على السواء. لا بل نجد الدروز في عهد الإمارة التنوخية يقومون أحياناً بدور عسكري بارز خارج حدود مناطقهم فيكافأون بمد سلطتهم على أجزاء واسعة من بلاد الشام حيث تعاظم دور الدروز السياسي في العهد التنوخي بسبب تفوقهم العسكري، وتميز تاريخهم السياسي في الفترة ما قبل القدوم العثماني بالتحالف الوثيق مع مختلف القوى الإسلامية السائدة في المشرق العربي وقد تركت هذه القوى للدروز حرية العقيدة ولم تتعرض لخصوصيتهم المذهبية ولا الإجتماعية، مما ساعد الدروز على النهوض فكرياً ومذهبياً فضلاً عن استقرار مناطقهم وازدهارها إقتصادياً
وتنقضي هذه المرحلة وإذا بالدروز كتلة إجتماعية متراصة وطبقة عسكرية مقاتلة ويأتي الغزو العثماني لبلاد الشام فتحل القوة الإسلامية الجديدة محل القوى الإسلامية للمماليك. ولكن العهد الجديد لم ينقص من دور الدروز في المرحلة الأولى من الحكم العثماني. إذ على الرغم من زوال حكم التنوخيين بزوال دولة المماليك استطاع الأمير فخر الدين المعني الأول من الحفاظ على مكانة الدروز وموقعهم ومن ثم قدم الى الحكم الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي تصادم مع الحكم العثماني وحاول الإستقلال عن الإمبراطورية العثمانية حيث وصل حكمه من حلب شمالاً حتى حدود مصر جنوباً
لم يحاول الأمير فخر الدين الثاني الدرزي إنشاء دولة درزية مستقلة عن الإمبراطورية العثمانية بل كان هدفه إستقلال لبنان وبلاد الشام عموماً عن الإمبراطورية العثمانية وإقامة دولة قومية عربية وأن يتخلص من الحكم التركي، فالأمير فخر الدين الثاني لم يكن رجلاً دينياً بل كان وطنياً بإمتياز وكان يبدي محبة كبيرة لجميع الأديان وخصوصاً للمسيحية المشرقية. وله يعود الفضل في تبلور الكيان اللبناني منذ ذلك الوقت
إنتهى دور الدروز الفعلي في تسلم السلطة الأولى في أماكن تواجدهم في المشرق العربي مع نهاية الإمارة المعنية وبداية الإمارة الشهابية، حيث كان لإنقسام الدروز على بعضهم والحروب التي خاضوها ضد بعضهم وبتشجيع من الإمبراطورية العثمانية دوراً بارزاً في إنهاء سبعة قرون من حكم الدروز
عملت الإمبراطورية العثمانية على إذكاء نار الفتنة بين الدروز والموارنة في جبل لبنان في القرن التاسع عشر وساهم في ذلك القوى الأوروبية المتعددة التي وجدت في لبنان موطأ قدم لها بسبب تعدد طوائفه وباباً مثالياً للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية. حيث نالت فرنسا على حق حماية الموارنة في لبنان وروسيا على حق حماية المسيحيين الأرثوذكس والنمسا عل حق حماية الكاثوليك وبريطانيا على حق حماية الدروز وبدا لبنان في تلك الفترة مجموعة من الأقليات الدينية المتصارعة ومراكز نفوذ لكل القوى الدولية في ذلك الوقت
لعب الدروز دوراً بارزاً في التصدي للإنتداب الفرنسي بعدما تجاوز هذا الإنتداب روحية صك الإنتداب وقاموا بالثورة عليه في سوريا بقيادة سلطان باشا الأطرش وعملوا على توحيد سوريا الحالية ورفضوا تقسيمها وإنشاء كيان درزي لهم، أما دورهم في سوريا فقد تراجع كثيراً مع نشوء الدولة العلمانية تحت حكم حزب البعث التي لم تعط دوراً للطوائف في الحكم بل عملت على إنشاء المواطنة الشاملة بغض النظر إذا نجح هذا أم فشل
أما في لبنان فقد كان للدروز دور فاعل في التخلص من الإنتداب الفرنسي عبر ثورة بشامون التي قادها الأمير مجيد ارسلان كما كان للدروز دور فاعل في تبلور القومية العربية أيام جمال عبد الناصر عبر المفكر العروبي كمال جنبلاط الذي أطلق عليه عربياً ومحلياً لقب المعلم لبراعته بالفلسفة والسياسة. إلا أن دور الدروز في لبنان الجديد كان محدوداً فحتى لو أن النظام اللبناني هو نظام طائفي وليس علماني فقد تم النظر الى الدروز حسب عددهم لا حسب تضحياتهم ومكانتهم التاريخية حيث كان عددهم قد أخذ بالإنحسار ما جعلهم خارج السلطات الرئاسية الثلاث في لبنان. إلا أن دورهم ضل مؤثراً ولا تزال القوى المحلية في المشرق العربي والقوى الإقليمية والدولية تنظر الى هذه الأقلية وتعيرها كل الإهتمام لما لها من مخزون تاريخي نضالي كبير بالإضافة الى تواجدها داخل اسرائيل وعلى حدودها ولما لهذه المناطق من أهمية بالغة عند الدول الإقليمية والدول العظمى حيث أن كل مخططات التقسيم تتناول بجدية وأهمية أماكن تواجد الأقلية الدرزية في المشرق العربي
رد فعل الدروز على أحداث الربيع العربي
يشكل الدروز 3% من عدد سكان سوريا ويسكنون المناطق الجنوبية في محافظة السويداء ومحافظة القنيطرة ويعيش قسم صغير منهم في محافظة إدلب ولهم إنتشار واسع في لبنان وفي الأردن وفي فلسطين ورغم عددهم القليل إلا أنهم يلعبون دوراً بارزاً في صياغة سياسة المشرق العربي، حيث لمعارضتهم للسلطة الحاكمة دور محوري في زوالها ولولائهم للسلطة الحاكمة دور محوري في بقائها واستمرارها
يتميز الدروز بوطنيتهم العالية وولائهم لأوطانهم وإيمانهم بالدولة والنظام وهذا ما يفسر قيادتهم لثورات عديدة عبر التاريخ أهمها ثورة الأمير فخر الدين المعني الثاني على العثمانيين ونيله حكماً ذاتياً في لبنان في تلك الفترة، وثورة سلطان باشا الأطرش ضد الإنتداب الفرنسي عام 1925 ورفضه تقسيم سوريا الى ثلاث دويلات ومطالبته بوحدة سوريا وسيادتها وإستقلالها وثورة الأمير مجيد أرسلان في بلدة بشامون للمطالبة بإستقلال لبنان عن الإنتداب الفرنسي وثورة كمال بك جنبلاط عام 1956 للحفاظ على وجه لبنان العروبي وعدم إغراقه بالتحالفات المشبوهة آنذاك
تتميز هذه الطائفة بالشجاعة والمقاومة والقدرة العالية على القتال، أما ولائها الإستثنائي للبلدان التي تتواجد فيها فهو ينبع من آلية الحفاظ على الذات بسبب عدم تمددها الديني الى الدول الإقليمية مثل ايران وتركيا ومصر والسعودية حيث لا يوجد دروز في تلك الدول من هنا نرى أن لدى الدروز شعور عال بالوطنية لقناعتهم أن الدول حيث إقامتهم هي ملاذهم الأول والأخير
في بداية الحرب الأهلية في سوريا بينما لم يكن واضحاً الى أين تتجه الأحداث في المنطقة حاول الدروز إلتزام الحياد كما حذر الشيوخ الدروز من الحرب الأهلية إلا أن مجرى الأحداث المتسارع وتحول الثورة السورية الى ثورة مسلحة ومن ثم أسلمة الثورة ودخول الجهاديين والتكفيريين وظهور تنظيمي داعش وجبهة النصرة جعل الدروز يصطفون بشكل كامل مع الرئيس بشار الأسد وذلك لقناعتهم أن البديل عن النظام هو الفوضى والإرهاب وقد عزز موقفهم هذا ما حصل في شمال ادلب في جبل الدروز حيث أجبرت جبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا حوالي 25 ألف مواطن درزي في 18 قرية على إعتناق الإسلام السني وأجبرتهم على إقامة الصلاة والطقوس الأخرى حسب المذهب السني وكادت تفرض عليهم زواج بناتهم من أبناء الطائفة السنية
لم يدرك الأميركيين وحلفاؤهم قيمة الدروز جيداً في الصراع السوري لذلك باتت كل محاولاتهم بالسيطرة على محافظة القنيطرة وعلى درعا بالفشل وكان للدروز العامل الأكبر في إفشال كل الهجومات التي خطط لها الأميركيين وحلفاؤهم في غرفة الموك في الأردن، حيث أن تمكن الأمريكيين وحلفاؤهم من إستمالة الأكراد في شمال سوريا ساهم بتعزيز تواجدهم ونجاحهم في الشمال السوري بينما عدم قدرة الأميركيين على إستمالة الدروز في جنوب سوريا أدى الى فشلهم هناك. كما أن الأكراد دائماً يحلمون بدولة وكيان مستقل ويسعون لذلك بينما الدروز دائماً تعرض عليهم مشاريع التقسيم وتأسيس كيان درزي وهم يرفضونه ويعملون دائماً على إسقاطه وهناك محاولات عديدة لإسرائيل بإستغلال الدروز وإنشاء كيان مستقل لهم على حدود إسرائيل يكون بمثابة درع واق وخط دفاع أول عن اسرائيل
إنقسم دروز لبنان بين مؤيد للثورة السورية وبين مؤيد للرئيس بشار الأسد إلا أن وليد جنبلاط الذي يقود التيار المعارض للأسد والمؤيد للثورة لم يقوم بخطوات فعلية في تجييش الدروز في سوريا وتحويلهم الى معارضين للأسد ربما خوفاً منه على مصيرهم في تلك الفوضى العارمة التي اجتاحت سوريا، بينما الأمير طلال أرسلان في المقلب الآخر وهو الذي يقود التيار الدرزي المؤيد لبشار الأسد عمل على إبقاء الدروز في سوريا في خندق النظام كما ساعده في ذلك شخصيات درزية مهمة في سوريا على ذلك أبرزها مشايخ العقل والعميد عصام زهر الدين الظابط اللامع في الجيش السوري الذي إغتيل في محافظة دير الزور في تشرين الأول من العام 2017
كان للدروز دور كبير في بقاء حكم الرئيس بشار الأسد وبذلك رسم معالم الصراع السوري بشكله الحالي خصوصاً برفضهم فكرة إنشاء دولة مستقلة لهم على شكل إقليم كردستان في العراق. إن تأييدهم لبشار الأسد لم يكن نابع من محبتهم فقط للرئيس إنما من عدم وجود البديل الحقيقي الذي يضمن بقاؤهم ويضمن لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية ويحافظ على ركائزهم الثلاث المقدسة الدين والأرض والعرض، حيث كان البديل المطروح هو خلافة إسلامية متشددة وهم كانوا عبر تاريخهم قد عانوا من ظلم السلطة المركزية السنية إن كان في أيام عصر المماليك أو في عصر العثمانيين. لذلك قرروا القتال من أجل الحفاظ على النظام أي الحفاظ على أرضهم ومعتقداتهم ومكتسباتهم
د.فيصل مصلح – مدير هيئة الأبحاث والدراسات الإستراتيجية – بيروت