بقلم طارق حديفه
فصل الدين عن الدولة: عنوان أثار الجدل قديماً وحديثاً، وسيظل يثيره بین المتكلمين والمثقفين ورجال الدين والدولة والمحافظين والعلمانيين وغيرهم، كونه طرح في منطقة تعتبر مهد الأديان، ونقطة وسط في العالم، منها شعّت التعاليم والشرائع السماوية شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً. فمن قائل أن الدين فيه صلاح العباد والبلاد ويجب تحكيمه في كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد والجماعة والدولة، إلى قائل عنه أنه أفيون الشعوب وسبب التخلف والجهل المعيقين لمواكبة تطور الحضارة، إلى غير ذلك من الأقاويل الّتي لا يتسع المكان لحصرها. ونحن إزاء هذا الموضوع نجد أنه علينا التوسع قليلاً في مفهوم كل من الدين والدولة
الدين: كلمة لها عدة معان في اللغة، منها: الحكم والحساب والطاعة والعبادة والقضاء والسلطان والجزاء. أما في الإصطلاح فسنختار تعریفین اثنين
أولاً: مجموعة واجبات المرء تجاه ربه وتجاه أخيه الإنسان
ثانياً: وضع إلهي يكفل للمؤمنين صلاحهم في الحال وفلاحهم في المال
ونحن هنا لا نريد أن نخوض في فلسفة هذه التعاريف، ولكن يمكن القول أن الأديان السماوية تتضمن عقيدة عن مفهوم الألوهة والكون والحياة والإنسان، وتشريعاً ينظم الحياة الإنسانية، وجملة من القيم يجب التمسك بها والعمل بهديها، وهي تشترك وبخاصة المسيحية والإسلام في الدعوة إلى التمرّس بقيم كثيرة: كفعل الخير والمحبة والعطاء والعفو والرحمة والإستقامة والتعاون والعدل۔ وفي المقابل تنهي عن المحرمات كالقتل والسرقة وشهادة الزور والكذب والظلم وغيرها. من هنا كان للمرجعيات الدينية في الدول الحديثة دور هام ومطلوب، كونها تدعو إلى القيم والأخلاق وتحث المواطنين على الإلتزام بالقوانين وعدم الخروج عليها. أمّا في مفهوم السلطة والدولة والتشريعات فهناك اختلاف في النظرة إلى هذه المواضيع بين تلك الأديان، ولكن العنصر الجامع بينها هو أن بعض أتباع هذه الديانات قد مارس السلطة في حقبة أو حقبات من الزمن، وخيضت معارك وحروب تحت الشعارات الدينية، واجتمعت عندها السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لذلك بات طرح مقولة فصل الدين عن الدولة في منطقة الشرق الأوسط مهد الديانات من الصعوبة بمكان، وطبيعي أن تقوم وتتواصل حركات التوعية ضد أو مع هذه المقولة
هذا فيما يتعلق بمفهوم الدين، أما مفهوم الدولة فإنه يرتكز على طبيعة الحياة الإنسانية وحاجاتها وطموحاتها وضرورة تطورها. فالإنسان عند أرسطو مدني بالطبع، ومن يستطيع أن يعيش خارج المدينة – الدولة – ليس إنساناً بل بهيمة أو إلهاً، لأنه لم يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الإنسان، إما لكماله المحض كالله، أو لنقصه الزري كالبهيمة. وعند أفلاطون هدف الدولة هو إبراز القوة العاقلة في الحياة الإنسانية، وإحكام إدارتها لشؤون البشرية، وضرورة سيطرتها على الظلام والجهل والغرائز والأهواء التي من شأنها تعطيل الحضارة الإنسانية أو تدميرها. من هنا تحدّث هيغل عن أن ما قبل الدولة هو ما قبل التاريخ الذي برأيه يبدأ بدخول العقلانية الى الوجود العالمي، أي حين يكون هناك وعي وإرادة وفعل أي دولة وما قبل الدولة فردية وأنانية وأهواء وميول وغرائز، والدولة هي لحظة العقل ولحظة الحرية في تعبيرها عن الأنا الفردي دون أن تكون أسيرة لأهوائه المتبدلة. ومع ظهور الدولة تظهر الحياة السياسية وتظهر القوانين الشاملة التي يجب أن تقوم على العدل والإنصاف والمساواة في الحقوق والواجبات. وفي حياة الدولة يتحتم ظهور الثقافة وتطور العلوم. وعلى هذه القاعدة من المدنية الشاملة التي تتمحور حول إنسانية الإنسان دون غيرها من الاعتبارات، يتحرك التطور في الدولة قدماً إلى الأمام وصولاً إلى غايتها الأخيرة، وهي أن تصبح عقلاً متحرراً واعياً. ومعلوم أن تعاقب الحضارات لنيل هذه الأهداف إنما يتم وفق منهج الجدلية والصراع، ونعني بالصراع صراع العلم مع الجهل، وصراع النور مع الظلمة، وصراع أنسنة المادة مع تمدية الروح
وبالعودة إلى موضوعنا – فصل الدين عن الدولة – في منطقة الشرق الأوسط، فلا بد من الإشارة إلى الأمور التالية
أولاً: إن التأثير الديني في هذه المنطقة يمتد لآلاف السنين، بدءاً من شرائع نوح وإبراهيم وموسى، وصولاً إلى المسيحية والإسلام، ونحن نقصد من خلال هذا الكلام أن نلقي الضوء على أهمية الأديان عبر التاريخ ومدى تجذرها في النفوس، ليس في لبنان والمنطقة فحسب، بل في كثير من الدول والممالك
ثانياً: إن ما يسمى اليوم بصراع الأديان والحضارات، والّذي استوجب الدعوة إلى الحوار فيما بينها، إنما هو ناشئ من إختلاف النظرة والعقيدة إلى مفهوم السلطة والدولة والخلفية الدينية والثقافية لها، بحيث بات تطلُع أي حضارة أو ثقافة دينية إلى السلطة وبخاصة في منطقتنا يؤدي إلى نشوء الصراع من قبل حضارة أو ثقافة دينية أخرى
ثالثاً: نلاحظ اليوم دعوات كثيرة إلى ترفيع الأديان عن الصراعات السياسية والطائفية، فالأديان تدعو إلى التعاون والتآلف، وما يجمع بينها أكثر ممّا يفرقها، والمشكلة ليست في الأديان بل في منطق الطائفية والتعصب الطائفي، وهذا الكلام على أهميته لا ينفي أن تقسيم الطوائف والمذاهب وتحديد كياناتها وأفرادها يرتكز في الأساس على العقيدة الدينية. لذلك باتت الطوائف الممثل الشرعي للمذاهب والأديان، ولكن تغلب مصطلح الطوائف في الأدبيات السياسية على مصطلح المذاهب والأديان. على أننا نرى اليوم اختلافاً قليلاً أو كثيراً بين التعصب الديني الذي كان سابقاً وبين التعصب الطائفي في وقتنا الحاضر. فالمتعصب دينياً هوذاك الفرد المشبع بعقيدته والملتزم بها، بينما المتعصب طائفياً ليس بالضرورة أن يكون ملتزما بالدين أو حتى مؤمنا به
رابعاً: إن فلسفة الأديان حول مفهوم السلطة والدولة والحكم وارتباطها بوقائع تاريخية ومساحات جغرافية ونظريات طبقية إجتماعية ووعود إلهية، أقول إن هذه الفلسفة قائمة في أذهان كثير من أهل الطبقات الحاكمة في عدد من الدول الكبرى والمتقدمة في الغرب وفي الشرق، إلا أن إخراجها إنما يتم عبر مفاهيم الدولة الحديثة، وممارسة وظائفها الدبلوماسية والسياسية والإقتصادية وغيرها، ولكنها على كل حال تشكل هذه الفلسفة أبعاداً استراتيجية وأهدافاً حقيقية لتلك الدول في رسم سياستها في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خاصة. هذا الشرق اللغز المعقدة أبعاده على كل صعيد في السياسات العالمية والإقليمية القائمة اليوم. ففي هذه المنطقة قابلية واستعداد لإنشاء الحكم الديني ليس من قبل دين واحد فقط، بل من قبل عدة أديان وعدة مذاهب. ففي منطقتنا العدو الإسرائيلي والشعب اليهودي الذي يرى نفسه الشعب المختار لدى الله دون سائر الأمم، وبالتالي يجب أن يَحكم ولا يُحكم، وعندنا – نحن العرب – مفهوم الخلافة الإسلامية التي أنشأت حضارة إسلامية متفوقة في عصرها، امتدت شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، وعندنا أيضا مفهوم الإمامة الشيعية، التي تستند إلى فلسفات إسلامية عميقة وصلبة في مفهوم الولاية والحكم والإدارة ورفع الظلم وانشاء القسط والعدل. وهناك في الغرب مَن يقول إن السيد المسيح سوف يظهر في أرض الميعاد – الشرق الأوسط – ولا بد قبل ظهوره من القضاء على الإرهاب، ويعنون به في عمق مفاهيمهم الحضارة الإسلامية. وهنا في الشرق من يقول إن المسيحية ظهرت من عندنا، ومن هنا شعت على العالم، ونحن من نحكم أنفسنا، ونعرف كيف نتعايش مع المسلمين بالتفاهم والإحترام المتبادل، ولسنا بحاجة إلى من يحكمنا أو من يستمد حكمه علينا من الشرق ولا من الغرب. فمنطقة الشرق الأوسط اذاً معقدة أكثر مما يتصوره العقل البشري العادي، وفيها من التشابك الفكري والعقائدي والديني والمذهبي ما لا نجده في أي منطقة أخرى من العالم، هذا بالإضافة إلى كونها ممراً إجبارياً لمن أراد السيطرة على العالم قديماً وحديثاً، فمن أراد أن يحكم الشرق والغرب عليه أولا أن يحكم الشرق الأوسط، ويستولي على مقدراته وثرواته وممراته وبره ويحره وإلا ستمنی محاولاته وطموحاته بالفشل
وهنا انطلاقا من وجود هذه المعضلة في الشرق الأوسط، ظهرت بعض المذاهب السياسية التي تؤكد أن الكيان السياسي الصحيح لا يقوم على أساس عقد طائفي أو مذهبي بل عقد مدني يستند إلى وعي وحدة الحياة، وذلك من أجل تكريس الدولة المدنية بعيداً عن التجاذبات الدينية والطائفية وإنشاء الكيانات السياسية على أساسها. وبالحقيقة هذا ما تدعو إليه جهات سياسية كثيرة محلياً وإقليمياً، إلا أن ذلك كله لم يحقق نجاحاً فعالاً على مستوى شعوب المنطقة. فالصراع العربي الإسرائيلي بالإضافة إلى مسبباته المادية كالأرض والمياه وغيرها يستند في الحقيقة إلى خلفيات دينية، ولو ظهر أو لم يظهر ذلك إلى العلن. فـ “إسرائيل” يريدها الصهاينة دولة يهودية عنصرية، ومن جهتنا فالمقاومة ذات الأبعاد الدينية – ونعني بها المقاومة الإسلامية – قد نجحت في تحقيق انتصارات معنوية ومادية لم تتحقق على مدى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن “التحركات الشعبية” العربية الّتي بدأت منذ حوالي عشرة أعوام متفاوتة في توجهاتها، متباينة في أغراضها وأهدافها، ولكنها بشكل أو بآخر كرّست التعصب الطائفي نتيجة التطرف الديني من جهة، ونتيجة المؤامرات الكبرى التي تحاك ضد شعوب هذه المنطقة من جهة ثانية، لذلك فإن التأثير الديني لا يزال هو المسيطر على شعوب المنطقة بشكل عام دون الأنظمة. وعلى كل حال إننا في عرضنا لهذه الوقائع لا نريد أن نقول إننا مع دمج الدين مع الدولة بل على العكس من ذلك، إننا مع فصل الدين عن الدولة، وذلك احتراماً منا للأديان وخصائصها الفكرية والعقائدية، ومنعاً للصراع على السلطة على أساس ديني عقائدي
وإذا دخلنا إلى المسألة اللبنانية، نرى أن لبنان لم يعانِ من تدخل الفكر الديني في تكوين نظامه السياسي. فالدولة مدنية علمانية، والدستور لم ينص على دين للدولة بل لم يستند في التشريع على دين معين، ولكنه نص على احترام جميع الأديان، وهو بهذه المادة من الدستور يعبر عن وجهة نظر اللبنانيين جميعاً. إلا أن المسألة الجدلية في لبنان هي مسألة الطائفية السياسية التي تكوّن لبنان على أساسها، والتي كان لها أسباب موجبة ومعقولة. ويبقى السؤال المطروح في لبنان : هل يجب إلغاء الطائفية السياسية أم يجب الإبقاء عليها ؟ وممّا لاشك فيه أن للطائفية آثار سلبية كثيرة منها
أنها أنتجت الكثير من الاتجاهات الفكرية والسياسية والحزبية والدينية لصالح التمترس وراء الطائفة على حساب الدولة، كما تسببت بنشوء حروب وصراعات طويلة الأمد، هذا بالإضافة إلى تكريسها المؤسسات الرسمية كمواقع طائفية مذهبية، وتغذية المحسوبية على حساب مبدأ تكافؤ الفرص، بحيث منعت علاقة المواطن بالدولة إلّا عبر وسيط سياسي، وإلّا فلا وظائف ولا خدمات، الأمر الّذي يشجع على الإنتماء للطائفة والمذهب بدل الإنتماء للدولة، إلى غير ذلك من أنواع الهدر والفساد في الإدارة والقضاء والإقتصاد ومعظم مرافق الدولة، وتبقى الطائفة في مثل هذه الحالة الملجأ الأهم للهروب من المساءلة والمحاسبة. وبالرغم من ذلك كله تبقى مسألة إلغاء الطائفية السياسية في لبنان مسألة حساسة، وعلى مَن يتصدى لمعالجتها أن يتنبّه لأمور عدّة، ويعي وجوب إجراءات معنوية ومادية مطلوبة قبل إلغائها. أما حساسية هذه المسألة فهي ناشئة من عدة أسباب أهمها
إن المرجعية غير الرسمية للبنان هي التوازن الطائفي، وأي خلل في هذا التوازن سيؤدي إلى الشعور بالخوف من سيطرة طائفة أو أكثر على الطوائف الأخرى، كما هي الحال القائمة اليوم عند البعض بشكل أو بآخر
غياب مرجعية ثقافية مدنية واحدة للشعب اللبناني يقتنع بها بديلاً عن زج ثقافاته الدينية والطائفية في مسألة الكيان السياسي اللبناني
غياب وجود الدولة القوية القادرة التي تبسط هيبتها وسلطتها على سائر الشعب، بحيث يكون ولاؤه لها دون غيرها، وبالتالي تمنع وجود اي وسيط سياسي في علاقتها مع المواطن اللبناني
اختلاف نظرة اللبنانيين في كيفية التعاطي مع المحيط العربي والإقليمي والمجتمع الدولي، وموقع لبنان وموقفه العملي من الصراع العربي الإسرائيلي
تنامي الشعور والفكر الديني وبلوغه حد التوتر لدى الغالبية العظمى في لبنان وغيره من شعوب هذه المنطقة، جراء الاعتداءات الإسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني والمقدسات الدينية، بحيث بات هذا الشعور يطغى على كل ما سواه من الأفكار المدنية العلمانية
وفي النهاية يبقى التساؤل : ما هو الحل الممكن في لبنان ؟ أقول، يكمن الحل المرحلي وليس النهائي في تطبيق عاجل للإصلاح الإداري والقضائي والمالي في سائر مؤسسات ومرافق الدولة، لإنقاذ لبنان من هذه الأزمة الّتي لم يشهد لها مثيل من قبل. وهذا الأمر منوط بالأشخاص المسؤولين، فإن صلحوا صلحت الدولة، وإن فسدوا فسدت. لذا عليهم أن يطبقوا ما يقولونه في يخطاباتهم ويمنعوا الفساد من أنفسهم أولاً ومن بطاناتهم ثانياً، ولا يغطوا المفسدين أيا كانوا وإلى أي جهة انتموا، ويعملوا على تطبيق القوانين تطبيقاً حقيقياً، وعلى الشعب اللبناني إن كان حقاً يريد التطور أن يحاسب المقصرين والفاسدين في صناديق الإقتراع. وفي مرحلة تالية يجب العمل على إنشاء “مجلس للشيوخ” يحفظ حقوق الطوائف وخصوصياتها، ويصار بعده إلى إلغاء الطائفية في الحياة السياسية اللبنانية، ويكون ذلك بالتزامن مع تحرك واسع وشامل لإنشاء خلفية ثقافية مدنية واحدة، كفيلة بإلغاء كل أشكال الطائفية السياسية
طارق حديفه : مدير المكتب الإعلامي لمشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان