الموحدون الدروز وتأسيس لبنان – الجزء الأول

بقلم أيوب مرعي أبوزور

إن الدارس لقيم وعادات مجتمع الموحدين الدروز سيجد أن ابناء هذا المجتمع يمتازون بأفضل خصال المجتمع العربي، فالموحدون الدروز شديدي المحافظة على تقاليدهم وقيمهم، ولم يختلطوا بغيرهم من الشعوب وعاشوا شبه مستقلين عن كل المجتمعات التي تحيط بهم، ولذلك ظلت أخلاقهم وعاداتهم هي نفس الأخلاق والعادات التي ورثوها جيلا بعد جيل دون أن تتأثر بمؤثرات خارجية، وأهم ما نراه في المجتمعات الدرزية شدة الحرص على المثل الخلقية، فالموحد لا يعرف الكذب بل هو صادق في كل كلمة يقولها وهو لا يعرف النفاق ولا الرياء ولا التظاهر بغير ما يضمر، ولصدقه اشتهر الموحد الدرزي بالأمانة والحلم والصبر، فهو لا يحاول أن يسيء إلى أحد ويتسامح مع من يسيء إليه، ولكن عند ما يشتد به الأمر فلا يجدى عفوه أو تسامحه شيئاً على قاعدة «من يعتدي ليس منا، ومن لا يرد الإعتداء ليس منا»، والدرزي شديد الوفاء لأصدقائه، فهو شديد المحافظة على عهوده ومواثيقه مهما كلفته هذه المحافظة، وهو ذو مروءة لا ينساها في غضبه، ويتحدث كل من عاشر الموحدين الدروز عن كرمهم، ولا يعرف مجتمع الموحدين الدروز شيئاً عن الزنا أو ما شبه ذلك من المفاسد الاجتماعية فالمرأة الموحدة أعف نساء العالم وأشدهن طهارة ومحافظة على شرفها، ولا يزال الحجاب إلى الآن مضروباً على نساء الموحدات بل حجاب المرأة من صميم عقيدة التوحيد. هذه المثل في مجتمع الموحدين الدروز متأصلة فيهم تجرى مع دمائهم العربية في عروقهم، فهي ليست بأخلاق مكتسبة بل هي أصيلة عندهم، فالموحدين الدروز عرب أقحاح يتمتعون بكل الخصال العربية الحميدة، وإذا نظرنا إلى تاريخ الدروز في العصر الحديث عن ضروب الشهامة والكرامة التوحيدية والدور الذي قاموا به في حركات التحرير العربي سنجد أن عواطفهم وقلوبهم وسواعدهم الفتية إنما جعلوها لنصرة الوطن العربي والقومية العربية، فالدور الذي قام به سلطان باشا الأطرش مع العرب لتحريرهم من بطش السلطنة العثمانية دور يمتاز ببطولة أشاد بها الجميع، وإذا كان ملوك العرب الذين اشتركوا معه في معركة التحرير هذه خانوا العروبة في سبيل مطامعهم الشخصية وحرصهم على تقسيم الغنيمة فيما بينهم فإن السلطان باشا الأطرش قام بدوره في سبيل العروبة دون أن ينتظر جزاء ما عمل، وكذلك عندما اعتقل الفرنسيون في لبنان إبان الإنتداب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورفاقهم وتم سجنهم في سجن قلعة راشيا عرض الجنرال البريطاني سبيرز اللجوء السياسي على الأمير مجيد أرسلان ولكن الأمير الشجاع رفض رفضاً قاطعاً وانتقل الى بشامون وأسس الحرس الوطني وكانت رسالته الى الفرنسيين “فلتكن بشامون ميسلون الثانية”، والفرنسيون يعرفون أن في ميسلون وقف البطل يوسف العظمة في وجه تقدم الجيوش الفرنسية ولم يترك السلاح حتى استشهد هو ومن معه، وهذا يثبت أن الأمير المقاوم مجيد أرسلان كان مستعداً كل الاستعداد للاستشهاد في سبيل استقلال لبنان، وأيضا في عام ١٩٤٨م. كان الأمير مجيد أرسلان على رأس القوات العربية التي خاضت معارك بطولية كبيرة في وجه الصهاينة، حتى وصل الى المالكية والناصرة في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة وقرعت له أجراس الكنائس وصدحت له مآذن الجوامع احتفالا بالنصر، وعندما قررت الحكومات العربية وقف إطلاق النار، طلب الأمير مهلة ١٢ ساعة كي يستكمل هجومه على العصابات الصهيونية ويقطع عنها خطوط الإمداد وبالتالي يضمن للعرب نصراً مبيناً، ولكن التخاذل العربي مجددا لبعض الرؤساء العرب في سبيل المطامع الشخصية أدى إلى رفض طلب الأمير فكانت النكبة. وهذا ليس غريبا عن الموحدين الدروز، بل هذا دأبهم وتاريخهم فهم حماة الثغور وهم المقاومون الأوائل، ويجمع المؤرخون على اختلاف مذاهبهم على أن العقيدة التوحيدية أول ما ظهرت في بلاد الشام إنما ظهرت في المنطقة المعروفة بوادي التيم وكان ذلك في سنة ١٠١٧م ( 408 ﻫ.) وقد سمي هذا الوادي بذلك الاسم نسبة إلى قبائل تنتسب إلى تيم الله بن ثعلبة وهي قبائل يمنية الأصل هاجرت من الجزيرة العربية في الجاهلية وسكنوا الفرات وكان منهم ملوك المناذرة أصحاب الحيرة، واشتركوا مع الأمويين في حروبهم ضد الروم، ولكن عنـدما ظهرت حركة العباسيين، انضموا لدعوتهم واشتركوا في معركة الزاب ضد مروان بن محمد. لذلك أبقوهم العباسيون على ما بيدهم من الإمارات، ولما قدم الخليفة أبو جعفر المنصور العباسي إلى دمشق وفد عليه أمراء بلاد المعرة، فقربهم إليه وطلب إليهم أن تنزح بعض بطون قبائلهم إلى لبنان لحماية السواحل من هجمات الروم وتأمين طرق المواصلات من المتمردين الموالين للروم الذين اعتادوا نهب القوافل والإغارة على القرى والمدن. فتقدم إثنان من زعماء القبيلة هما الأمير المنذر بن مالك وأخوه الأمير أرسلان لطلب الخليفة ورحلا بمجموعهما سنة ٧٥٩م ( 142 ﻫ) إلى جبال لبنان بعد أن أقاموا عدة أيام في وادي التيم حيث كان ينزل بنو عمومتهم، وتفرقت هذه الجموع العربية في جبال لبنانآل أرسلان سلالة القبائل العربية الذين عرفوا في التاريخ بالمناذرة ملوك الحيرة، وهؤلاء الأمراء الذين بعث بهم أبو جعفر المنصور من بلاد المعرة إلى لبنان لحماية السواحل من هجمات الروم ولقتال المتمردين الموالين للروم، ومنحهم المنصور العباسي إقطاعات واسعة في لبنان، فانتشروا في جبال بيروت وعمروها، وما زالت الإقطاعات في أيديهم وولاة العباسيين يقرونهم على هذه الإقطاعات إلى أن أنعم على الأمير النعمان بن عامر الأرسلاني بلقب أمير الدولة وأقره ماجور والي دمشق على ولاية بيروت وصيدا وجبلها، وأمر بالإقامة في بيروت ليحافظ عليها من الروم، وفي سنة 875 م (261 ﻫ) هزم الأمير النعمان جحافل المردة على نهر بيروت هزيمة منكرة جعلت الخليفة العباسي المتوكل يكتب إليه يمدحه ويقره على ولايته له ولذريته من بعده ويرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود، واستمر الأمراء الأرسلانيون على إقطاعاتهم وازدادت سطوتهم واتسع ملكهم واشتهر أمرهم حتى إنه في سنة 924 م (312ﻫ) مرّ أحمد بن محمد بن أبي يعقوب ابن هارون الرشيد بأسرته ببلاد لبنان فاستقبله الأرسلانيون بالحفاوة وأكرموه غاية الإكرام وطلبوا إليه أن يلقى عليهم شيئاً من علم الحديث الذي عرف به ثم تمت مصاهرتهم مع أسرته إذ تزوج الأمير المنذر سيف الدولة الأرسلاني بالسيدة كلثوم سليلة العباسيين، وكان لهذه المصاهرة أثرها في ازدياد نفوذ هذه الأسرة وتوطيد مكانتها عند الخلفاء العباسيين وعند الشعب، وفي إمارة سيف الدين المنذر الأرسلاني. سمع بنو عمومتهم بما صاروا إليه من إمارة ونعيم في الحياة فهاجروا إليهم وتكاثر عددهم حتى أصبحوا قوة لها شأنها في حفظ هذه البلاد من هجمات الروم، واستمرت هجرة القبائل العربية إلى لبنان ووادي التيم ووسعت كل قبيلة فيها إلى بنى أبيها حتى اشتدت شوكة هذه القبائل في تلك البقاع. إلى أن كانت سنة ٩٦٩ م ( 358 ﻫ.) إذ قامت جيوش المعز لدين الله الفاطمي بقيادة جعفر بن فلاح لفتح بلاد الشام وبعد أن استولى على الرملة وطبرية كتب إلى الأمير سيف الدولة المنذر بن النعمان بن عامر أمير بيروت يدعوه إلى بيعة المعز، فاستشار سيف الدولة عشيرته، فلما استولى جعفر بن فلاح على دمشق، سار إليه سيف الدولة وزعماء قومه وبايعوه للمعز لدين الله وبذلك دخلت هذه القبائل في الدعوة الفاطمية. إلى أن جاء الحاكم بأمر الله سنة ١٠١٧م ( 408 ﻫ.) وأعلن مذهبه الجديد؛ فكان أهل وادي التيم وجبال لبنان هم الذين تقبلوا هذه العقيدة وظلوا يحافظون عليها إلى الآن. وبالرغم من تمذهبهم بهذه العقيدة فقد ظلوا في مقاطعاتهم تحت إمرة شيوخهم الذين هم بدورهم كانوا يتبعون الولاة في دمشق وعكا وبيروت دون أن يحول مذهبهم الديني عن القيام بأعمال بطولة خارقة مع إخوانهم المسلمين في الحروب الصليبية

إبان الحروب الصليبية كانت إقطاعات الدروز في لبنان في يد الأرسلانيين، وكان الصليبيون يعملون لإنشاء دولة لاتينية على ساحل البحر الأبيض المتوسط فكان لا بد للدروز من الدفاع عن بلادهم أمام الغزو الخارجي ولا سيما أن المسلمين ـ وقد عهدوا فيهم المقدرة الحربية ـ طلبوا إليهم العمل على سلامة الساحل، فحارب الدروز مع المسلمين وفي سنة 1151 م (546 ﻫ) هزم الدروز بقيادة الأمير أبي العشائر بحتر الأرسلاني جيوش الصليبيين في موقعة رأس التينة، وانضم الأمير زين الدين صالح الأرسلاني لجيوش السلطان قطز وحاربوا التتار في موقعة عين جالوت الخالدة، واستمر الدروز يقاتلون ضد الصليبيين وضد التتار حتى تم النصر لهم، وكان المماليك يقرون أمراءهم على إقطاعاتهم، وتاريخهم هذا يوضح لنا سياسة الدروز في كل عصورهم وهي سياسة عربية مقاومة قبل كل شيء. وفي سنة 1516 م. (922 ﻫ) قام السلطان سليم الأول العثماني بغزو الشام ومصر، وانضم إليه آل معن برجالهم من الدروز، فاعترف العثمانيون لهم بالإمارة سميت إمارة جبل لبنان، وحصل على نوع من الاستقلال الجزئي، وازداد النفوذ المعني في عهد الأمير فخر الدين بن معن الثاني (1585 ـ 1635 م) ، حيث شعر بقوته واتساع ملكه فشاء أن يكون له الحق الكامل في العلاقات الخارجية دون أن يستأذن الباب العالي في أمر هذه السياسة، حيث كان يتمتع أصلا بالاستقلال الداخلي، لكنه فشل في تحقيق ذلك. وبقيت إمارة جبل لبنان تحت سلطة العثمانيين مع الشهابيين، ثم أقرّ العثمانيون نظام حكم جديد ألغوا بموجه إمارة جبل لبنان التي كانت تحت سلطة الدروز واستبدلوها بمتصرفية جبل لبنان، وقد جعل هذا النظام المناطق الداخلية في لبنان (الحالي) ذات التواجد المعتبر للدروز والمسيحيين تحت حكم متصرف مسيحي عثماني غير لبناني تعينه السلطنة العثمانية بالتوافق مع الدول الأوروبية، وهكذا قام النظام السياسي اللبناني على التقسيم الطائفي للسلطات والمناصب الإدارية، وتم إنشاء مجلس إداري خُصِّصت فيه مقاعد للطوائف الدينية الست الرئيسة في جبل لبنان، بما يتناسب مع الأعداد الإجمالية لأفرادها، بحيث يضمن تمثيل فئات معينة في حين يساهم أيضاً في شلل عملية صنع القرار . ولطالما أدّت العيوب التي تكتنف نظام الحكم القائم على أساس طائفي إلى الدخول في أتون حروب أهلية، وحافظ النظام على تماسكه بفضل وجود قوة خارجية ناظمة. وكان يدخل في حالة الفوضى عند غياب هذه القوة الخارجية الناظمة. وقد استمر هذا النظام حتى مطلع الحرب العالمية الأولى وانهزام السلطنة العثمانية أمام الجيوش العربية بقيادة الشريف حسين المدعوم من الحلفاء (فرنسا وبريطانيا)، وبعد أن خان الحلفاء الشريف حسين وقرروا تقسيم البلاد العربية إلى دويلات ذات حدود سياسية مصطنعة، لتفتيت بلاد الشام بهدف تسهيل فرض سلطتهم عليها وتقاسمها فيما بينهم والتحكم بها وإخضاعها عبر ما سمي وقتها اتفاقية سايكس_بيكو الشهيرة وتكريس نظام الانتداب الذي اقرته عصبة الأمم، ولذلك تم إضافة مدن الساحل والبقاع وطرابلس والجنوب ووادي التيم وسهل عكار إلى متصرفية جبل لبنان وتم إعلان قيام دولة لبنان الكبير. وكانت إمارة جبل لبنان هي نواة لبنان الكبير التي كانت تعكس سيادة الدروز، ومن بعدها جاء نظام المتصرفية الذي كرس السيادة المارونية-الدرزية المشتركة، وأُرسيت المتصرفية على فكرة أنها تُعتبر ملاذاً للجماعات المُضطهدة

لكن فرنسا حينها كانت في خضم تنافسها المتفاقم مع بريطانيا العظمى على تقاسم تركة السلطنة العثمانية، وكان دافعها الوحيد هو تحقيق مصالحها الجيوسياسية. ولذلك سعت لأن تكون لها طليعة في بلاد الشام، من شأنها أن تسمح لها بطرح إيديولوجيتها في المنطقة، جنباً إلى جنب مع سياسة حماية الأقليات وفي المقدّمة منها حماية المسيحيين. لذلك لا يمكن اعتبار إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 م فعليا أكثر من تركيب استعماري فرنسي تمت المبادرة إليه بتواطؤ فعّال من النخب المارونية ولصالحها. كان هدف الموارنة والفرنسيين هو توفير وطن شبه قومي للمسيحيين في الشرق الأوسط ذي الغالبية المسلمة. وقد اعتبرت النخب المارونية هذه المغامرة تتويجاً لمشروعهم الذي يتمثل في خلق أمّة لبنانية. وهكذا، اضطرّت النخب المارونية، منذ البداية، ونظراً إلى التركيبة لبنان الديموغرافية الجديدة، التي تغيرت عبر إضافة مناطق ذات غالبية إسلامية مطلقة إلى مناطق جبل لبنان بهدف توسيع البلاد، ظهرت حاجة ملحة إلى تبني خطاب أكثر شمولاً، لاستيعاب جماهير الطوائف الإسلامية التي جرى دمجها في دولة لبنان الكبير. لذلك كان لابدّ من رواية تأسيسية لتحويل الهيمنة المارونية إلى قصة وطنية مقبولة تبرر وجود دولتهم الجديدة وتخفي حقيقة مشروعهم. وعلى غرار التسوية التي اعتُمدت لإنهاء الصراع في العام 1840 م. برز نظام الطائفية السياسية استجابة لهذا التحدّي الإيديولوجي، إذ جرى بالفعل اعتماد التوزيع الطائفي للسلطة على الطوائف الدينية المختلفة باعتبارها أطرافاً سياسية فاعلة. وتحول لبنان من مجتمع متعدد الطوائف إلى نظام دولة متعددة الطوائف، واستخدم الواقع الاجتماعي، ليصبح الاعتبار الأهم في نظامهم

هكذا بعد أن وضع أبناء طائفة الموحدين الدروز تحت لواء الأمراء الأرسلانينن أسس الكيان بعد أن نجحوا في طرد الإفرنج من بلادنا، ومن بعدهم أنشأ المعنيون إمارة جبل لبنان، أصبحوا أقلية في هذه الدولة المستحدثة التي أسموها دولة لبنان الكبير. ورغم تحولهم لأقلية إلا أنهم حافظوا على حظورهم في تركيبة السلطة عبر مشاركتهم الفاعلة في إدارة شؤون البلاد والعباد خلال فترة الانتداب الفرنسي، وتجلى ذلك في الدور الأساسي والحاسم الذي مارسه المكون الدرزي بقيادة عطوفة الأمير مجيد أرسلان في تحقيق فجر الاستقلال الذي بزغ على يديه من بشامون

(للحديث تتمة)

(المراجع: منصة غوغل، ويكيبيديا، مركز دراسات الشرق الاوسط)

أيوب مرعي أبوزور: كاتب وشاعر لبناني من بلدة تنورة قضاء راشيا، حائز على ماجستير في علوم البيولوجيا من كلية العلوم في الجامعة اللبنانية