الدكتور هشام الأعور: “من يعرقل انشاء مجلس الشيوخ في لبنان ؟”.

وضعت وثيقة الوفاق الوطني “دستوريا ” هيكلا ممتازا أو خارطة طريق من خلال تشكيل الهيئة الوطنية لدراسة سبل الغاء الطائفية السياسية،وبالتالي التمهيد لقيام الثنائية المجلسية وترجمتها باستحداث مجلس للشيوخ تتمثل فيه العائلات الروحية على ان تشمل صلاحياته القضايا المصيرية الى جانب مجلس للنوات منتخب على اساس وطني لا طائفي. لكن كما في اي شيء، انتقال الفكرة من الورق الى التطبيق ليس بالسهل في لبنان .

سرعان ما هوجمت المخرجات و بشكل ممنهج من قوى مستفيدة من الوضع القائم ، و بطرق مختلفة، و السؤال ، هل هناك حقا من يعرقل استحداث مجلس الشيوخ ؟ اذا كان هناك حقا، ما حججه ؟ و بكل الاحوال لماذا تبدو بعض القوى السياسية حذرة من انشاء مجلس الشيوخ بينما هو يشكل بعض الحل لمشاكل كثيرة في النظام السياسي؟ وما الضرر من المحاولة وبالتالي البناء على الفكرة وتطويرها بهدف تطبيقها وتحقيق الهدف المنشود؟
يرى البعض ان فكرة استحداث مجلس الشيوخ دونها عوائق قانونية وسياسية ناجمة عن سكوت المشترع في تحديد دقيق للصلاحيات والدور والآليات، بسبب الاشكاليات المترتبة عنها من مثل: كيف سيتم تشكيل اعضاء المجلس ، هل بالانتخاب ام بالتعيين؟ ماذا سيكون اساس تشكيل المجلس طائفيا ام جغرافيا ام مختلطا؟ ما هي مدة الولاية وعدد الاعضاء وكيفية التوزيع بين الطوائف والمناطق؟ ويردف هؤلاء: لمن ستكون رئاسة المجلس ؟ هل يمكن لمجلس النواب نقض سلطة مجلس الشيوخ؟ كيف يمكن رسم الصلاحيات ما بين المجلسين من جهة، وبين مجلس الشيوخ والسلطة التنفيذية من جهة اخرى؟
هذه التساؤلات وغيرها تعكس مدى الخوف و التوجس من قيام هذا المجلس والتي من الممكن ان تزيد من الصراع السياسي – الطوائفي ، وتؤدي الى تفاقم الامور الخلافية حول فكرة استحداث غرفة ثانية في البرلمان اللبناني وإلى التشكيك من قبل البعض بنص المادة 22 من الدستور التي أشارت إلى تلازم المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية مع انشاء مجلس الشيوخ، والذي من شأنه أن يبقي الطائفية السياسية؛ بحسب مزاعمهم؛ مظهراً اساسياً في النظام السياسي – الدستوري اللبناني، وبالتالي بدل أن يكون المجلس إطاراً دستورياً لحل بعض المشكلات، يصبح مع الوقت سبباً في تكريس الطائفية، والمزيد من الأزمات الوطنية الحادة.
و انطلاقا من هذا التشويش على اتفاق الطائف يسوّق هؤلاء المعارضين فكرة «نظام المجلسين»، بأن الطرح يأتي في إطار غير دستوري. فلا موضوعية في الطرح، بل ان قيام مثل هذا المجلس يظهر كجائزة ترضية تطرح بين الحين والآخر، لإرضاء الدروز في لبنان؛ كما يعتبرون في الوقت ذاته، أن الطرح يتعارض مع وحدة الأمة المتمثلة في مجلس النواب وعلى اعتبار أن مبدأ «سيادة الامة» لا يتجزأ، وكل محاولة على هذا الصعيد من شأنها أن تقوّض الارادة الشعبية من جهة، وتؤدي الى الشلل التشريعي من جهة ثانية.
غير أن هذه الإشكالات أو التساؤلات التي يطرحها هؤلاء في معرض عرقلتهم الواضحة لاستحداث مجلس للشيوخ؛ انما تعكس حجم المخاوف التي فرضها الواقع السياسي اللبناني المعقد تبعا للممارسة الزبائنية والطائفية المرضية، والتي تجسدت على صورة تهديد يلاحق المؤسسات الدستورية وكل اللبنانيين. لكن لماذا لا يتم تحويل هذا التهديد الى فرصة، من خلال تحريك إرادة التطوير عند اهل الحكم وكل الغيارى على اتفاق الطائف انطلاقا من النصوص الدستورية، لا سيما نص المادة 22 والمادة 95 من الدستور، والعمل، جدياً، الى حلول اصلاحية لتركيبة النظام السياسي الراهن، تبدأ بإستحداث مجلس الشيوخ للبناء على مقومات وايجابيات الفكرة لا بأجندة بعض السياسيين، وفق الآتي:
– لما كان مجلس الشيوخ، بطبيعته، انعكاساً واضحاً لتمثيل الجماعة ، وللمحافظة على فكرة التعددية داخل المجتمع الواحد، فيما مجلس النواب يمثل، نظريا، الفرد الذي غالبا ما ينزع نحو التغيير والتطوير، فإن تطبيق الفكرة على الواقع السياسي اللبناني، من شأنه أن يؤدي الى الفصل بين تمثيل الفرد الذي يجد اساسه في إطار حقوقي وهو المجلس النيابي، وبين تمثيل الجماعة الذي يتجسد في مجلس الشيوخ.

– تنص المادة 22 من الدستور: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحية في القضايا المصيرية». ما يؤكد، بحسب النص، أن الهدف من إنشاء مجلس الشيوخ هو تجاوز الطائفية السياسية في المجلس النيابي، وهو، في الوقت نفسه، جزء من الخطة الواردة في المادة 95، وبالتالي فإن تحرير مجلس النواب من القيد الطائفي قابله تثبيت الطائفية في مجلس الشيوخ، لأنه لا يمكن الغاء الطائفية السياسية من دون الغاء الطائفية المجتمعية، وهذا ما يصعب تحقيقه، على اعتبار ان الفصل بين النظام السياسي والمجتمع يعني السماح بأن يكون النظام غريبا عن المجتمع، وهذا ما لم يقصده المشرّع الدستوري قط، ذلك أن العقلية الطائفية راسخة، حتى لو ألغينا التمثيل الطائفي. وما فكرة «مجلس الشيوخ»، بهدف تمثيل العائلات الروحية، الا من أجل الحفاظ على التعددية وتطلعات الطوائف في مؤسسة دستورية لا تنتقص من إرادة ووحدانية الأمة جمعاء. ولا ضير، والحال هذه، من الجمع بين مبدأين: السيادة الشعبية وسيادة الأمة، انسجاما مع فكرة التوفيق بين الطوائف كجماعات بشرية، وبين الشعب كمجموعة من الافراد..
– من الثابت والواضح أن مجالس الشيوخ قد عالجت بعض القضايا الحساسة في العديد من الانظمة الدستورية للدول. وبالتالي، لا شيء يمنع من انطباق الامر نفسه في لبنان، والاستفادة من التجارب الدستورية المقارنة بما ينسجم مع خصوصية التركيبة اللبنانية، لأن المشرّع الدستوري اللبناني، في نهاية المطاف، يدعو في المادة 95 كل المؤسسات الدستورية الى العمل على الغاء الطائفية السياسية، واعتبار هذا الالغاء، وفق مقدمة الدستور، هدفاً وطنياً يقتضي العمل به ضمن خطة مرحلية.
كما أن اعتماد الأساس الوطني لا الطائفي في انتخاب مجلس النواب ليس بالأمر الصعب. اذ بمقدور القوى السياسية الاتفاق على قانون انتخابي وفق النسبية على دائرة واحدة، ومن خارج القيد الطائفي، بالتوازي مع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية عملا بالمادة 95 من الدستور، حينئذ يصبح تطبيق المادة 22 من الدستور من مقتضيات الضرورة الوطنية.
– إن تقويض فكرة استحداث مجلس للشيوخ ، من زاوية النتائج، وغياب تحديد دقيق للصلاحيات، لا يبرر تجاوز النص الدستوري على اطلاقه، ولا يجيز الانقلاب على الفكرة بذريعة الممارسة السياسية، لأن مجلس الشيوخ، في الاساس، هو حل لمشكلة نعانيها لا العكس، لا سيما أن المشرع الدستوري كان قد أكد تضييق الصلاحيات التي يتمتع بها المجلس، عندما أدخلها في عبارة «القضايا المصيرية».
فالقضايا المصيرية، برأينا، وخلافا لكل الاراء المغايرة، لا تعني تماماً كل المواضيع الأساسية الواردة في المادة 65 من الدستور. فثمة فوارق بين الأساسية والمصيرية، لأن من شأن هذا التفريق أن يزيل هواجس بعض الطوائف والمكوّنات لجهة أن المواضيع الاساسية من صلاحية مجلس الوزراء، حيث يتخذها بأغلبية موصوفة.

حتى اللحظة، يبدو أنّ طرح إنشاء مجلس للشيوخ ضاعف الخلافات السياسيّة والطائفيّة القائمة، مع بروز خلافات مسيحيّة-درزيّة بشأن هويّة رئيس مجلس الشيوخ، وخلافات مسيحيّة-شيعيّة-سنية – درزية بشأن سُلطات هذا المجلس، علمًا أنّ هذه الخلافات تنسحب أيضا على قانون ​الإنتخابات النيابية​ ومحاولة كل جهة سياسية الفوز بقانون انتخابي يجعل من اصوات الناخبين المحسوبين عليها في الدوائر الانتخابية مُوازيًا لصوت الشركاء في الوطن، أي الناخب من الطائفة او المذهب الآخر من حيث الأهمّية والتأثير على النتيجة النهائيّة، وتُطبّق بالتالي مبدأ المُناصفة الفعليّة كما ينصّ الدُستور؛ خاصة على مُستوى إنتخاب نوّاب يتمتّعون بالدعم الفعلي من قاعدة شعبيّة ضُمن بيئتهم، وليسوا مجرّد شخصيّات مُعيّنة من قبل زعماء طوائف أخرى.
يُذكر أنّ المُطالبة المسيحيّة بأن يكون مجلس الشيوخ برئاسة شخصيّة مسيحيّة وتحديدًا من المذهب الأرثوذكسي، تنطلق من سببين إثنين، الأوّل أنّ المُسلمين يُسيطرون حاليًا على منصبي رئاسة مجلس النوّاب ورئاسة مجلس الوزراء، ما يَستوجب منح المسيحيّين منصب رئاسة مجلس الشيوخ إلى جانب منصب رئاسة الجُمهوريّة، إنطلاقًا من مفهوم المُساواة بين المسيحيّين والمُسلمين الوارد في الدُستور في إنتظار إلغاء الطائفيّة وفق خطّة مرحليّة. والسبب الثاني يتمثّل في أنّ عدد الناخبين من مذهب الروم الأرثوذكس بلغ بحسب أحدث إحصاءات (ومن دون إحتساب عدد الناخبين الأرمن الأرثوذكس) 255,734 ناخبًا، في مُقابل بلوغ عدد الناخبين من المذهب الدرزي 204,237 ناخبًا، ما يعني أنّ الأرثوذكس يحتلّون المرتبة الرابعة في الثقل الشعبي للمذاهب اللبنانيّة الأساسيّة، بعد كل من السُنّة والشيعة والمَوارنة على التوالي، ويجب بالتالي أن ينالوا رئاسة مجلس الشيوخ على أن يتنازلوا مثلاً عن منصب نيابة رئاسة الحكومة لصالح الدروز. في المُقابل، إنّ المُطالبة الدرزيّة برئاسة مجلس الشيوخ تنطلق من نظريّة تقول إنّ توافقًا شفهيًا بهذا المعنى حصل على هامش جلسات مُؤتمر الطائف صيف العام 1989، ومن نظريّة ثانية تقول إنّ مُقاربة منح هذا المنصب للدروز يجب أن تنطلق من دور الموحدين الدروز في نشأة لبنان وفي التأثير في الحياة السياسيّة، وليس من إحصاءات خاصة بعدد هذه الطائفة أو تلك.ومن نظرية ثالثة أيضا ترى انه وكي لا يثير ترؤس مسلم من الطائفتين الكبيرتين خوفا من طغيانهما العددي؛ وبسبب المراكز المثبتة للطوائف الاربعة الكبرى كرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء ونيابة رئاسة مجلس النواب ونيابة رئاسة مجلس الوزراء وقيادة الجيش والقائد العام لقوى الأمن الداخلي ومدير عام الأمن العام؛ فيجب اعتماد رئيس مجلس الشيوخ من الطوائف الاسلامية الصغرى الاساسية على ان يكون نائب الرئيس من الطوائف المسيحية الصغرى الاساسية؛ وبذلك يكون رئيس مجلس الشيوخ درزي ونائب رئيس المجلس روم كاثوليك. يبقى السؤال المطروح : ماذا تخفى كل هذه الحجج التي يسوقها البعض في معارضته لقيام مجلس الشيوخ؟ هل يشكل تمسك الدروز برئاسة المجلس العائق الوحيد لقيامه؟ وماذا لو تخلى الدروز عن مطلبهم في رئاسة هذا المجلس؟ لسنا نطرح تشكيل مجلس الشيوخ من منطلق طائفي أو مذهبي لتحسين حصة الدروز في السلطة السياسية، بل لنذكِّر بأنَّ هذا المطلب ورد في اتفاق الطائف كأحد البنود الإصلاحية السياسية لإخراج النظام السياسي من حالة الطائفية السياسية التي باتت تتجذَّر أكثر، كما أن أهمية هذا المجلس لا تهدف إلى تحسين التمثيل الدرزي في السلطة بل يسمح بتمثيل الطوائف كافة وتبديد هواجسها ومخاوفها، إذ إنَّ صلاحياته تتناول قضايا وطنية ومصيرية كبرى تؤمن مشاركة كل الطوائف في صوغ القرارات الوطنية. وبالتالي لا تصبح الطوائف خائفة ومتوجسة من بعضها البعض، وبالتوازي تُحرَّر الحياة السياسية من التمثيل الطائفي والمذهبي مما يجعل العمل التشريعي أكثر انسيابية والتصاقاً بخدمة الناس بصرف النظر عن الانتماء الطائفي والمذهبية. في حقيقة الأمر يبدو أنَّ هناك بعض القوى السياسية تتلطى خلف عنوان الإصلاح والتغيير وغيرها من الشعارات الرنانة التي تحاول من خلالها ايهام الناس بأنها تريد الإصلاح بينما هي تحمل مقص المحاصصة وتقاسم السلطة حفاظا على مصالحها وتقوية نفوذها و توسيع حصتها النيابية والوزارية. لذلك، إذا كان هناك من عودة إلى اتفاق الطائف بما ينص على سلة إصلاحات كاملة، يجب أن نتجه إلى ورشة إصلاحية كاملة تضمّ سلة إجراءات. ومن ثمَّ يمكن النظر إلى مجلس الشيوخ عبر مقاربة وطنية شاملة حيث يكون الأطراف كافة مشاركين في موضوع تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية .مع التشديد دوما بأن هناك ثمة خصوصية درزية معيّنة مرتبطة بتركيبة النظام السياسي في لبنان، القائم على التعددية والتنوع وأيضاً على توازنات داخلية دقيقة. وقد أثبتت التجارب السابقة أنَّ المس بهذه التوازنات أو الإخلال بها يؤدي إلى توتر وتشرذم، وفي بعض الأحيان إلى دورات من العنف. لذا، نقول بأنه لا بد من أخذ هذه الإجراءات. كما أنه من حق الدروز الحفاظ على وجودهم السياسي، هذه الطائفة الكيانية التي ساهمت إلى حد كبير في صناعة لبنان الكبير وقدَّم أبنائها تضحيات كبيرة على تثبيت صيغة العيش المشترك بين اللبنانيين.

 

** الدكتور هشام سماح الأعور : مؤسس ورئيس جمعية الحوار المجتمعي ومفوض الداخلية في حزب التوحيد العربي